بقلم: يونس التايب (*)
قبل ثلاثة أسابيع، أثـرت الانتبـاه، في مقـال سابـق، إلى خطورة ما يعيشه الفـريـق الحكـومي من شنـآن و تصـارع بين مكوناتـه الحزبية، دخل معها إلى مرحلة فقـدان الطمأنينة والتـوازن. و نبهـت إلى أننا قد “نكون أمام خطر حقيقي بأن تُقـدم الحكـومة على خطـوات غير محسـوبة، ربما تشعل فتيل حرائق اجتماعية تفسد الأرض وتأتي على البيت بمن فيه”، إذا ما انتقلت بعض مكوناتها إلى مرحلة الوسواس القهري، مع استمرار “الحلفاء” في ما هم فيه من خلاف تجاوز حدود اللياقـة، وخرجت تفاصيله إلى العـلـن عبر صفحات الجرائد و المواقع الإخبارية، و تعزز خـلال التجمعـات الخطابية التي تؤطـرهـا قيـادات حـزبية.
واليوم، يبدو لي أن ما نبهت إليه يتحقق بشكل كامل، حيث الأغلبية الحكومية غارقة في غياب الثقة و انعدام التجانس في المواقف والتصريحات بين مكوناتها، و التجاذبات تتأجج بين الحزب الحاكم و بين حليفه الأساسي، حزب التجمع الوطني للأحرار. وقد تابعنا نهاية الأسبوع الماضي، كيف تطورت الأمور إلى حالة من البلبلة وسط الرأي العام، جراء إسراف متعمد في الحديث عـن محطـة الانتخابات التشريعيـة لسنـة 2021، و قيام كل طرف بإبراز “يقينه” في أنه سيكون الفائز بدون منازع.
وإذا كان الطموح مشروعا في العمل السياسي، إلا أن ما ذهب إليه الحزبان المتنافسان من داخل الأغلبية الحكومية، أمـر مُستنكـر من عـدة أوجـه، لعـل أخفها أن الحديث عن نتائج انتخابات تشريعية، ستجرى بعد سنتين، أمر سابق لأوانه، و لا يستند إلى منطق سياسي معقول، كما لا ينبني على حصيلة إيجابية حقيقية، مسجلة في صحيفة الحكومة حاليا، و يمكن أن يصمد أثرها في أذهان الناس، خلال المدة التي تفصلنا عن موعد 2021، ليتم تجديـد الثقة في أحزاب الفريق الحكومي.
وعلى قدر يقيني أن الانزعاج المجتمعي مما يقع كبير، أعتقد أن من يتعمدون إطلاق التصريحات على عواهنها، و استفزاز “الحلفاء” و غير الحلفاء، إنما يريـدون تأزيم الوضع داخل الحكومة بشكل أكبر، و تتميم مسار تسفيه مقام المسؤولية السياسية والحزبية ببلادنا، وتقديم صورة تجعل الناس يبتعدون عن السياسة، و يكفـرون بالمشاركة المواطنة، تاركين الساحة فارغة لمن يريدون أن يستفردوا بتدبير هذا الوطن، و تغييب كل طاقاته الحية و تياراته لفائدة تصور واحد، و فكر واحد، وصولا إلى غلبة حزب واحد.
ومن هذا المنطلق، أتمنى أن يحلل المتتبعون والمهتمون ما يجـري ترتيبه من طرف بعض الجهات الحزبية، باستحضار أمرين اثنيـن:
أولا، أن ما يحدث من تجاذبات حزبية ما هو إلا إبطـاء إضافي لإيقـاع تدبيـر الشأن العام، وإضاعة لمزيد من الوقت من طرف الحكومة، مع ما سيخلفـه ذلك من نتائـج ستؤثر على التنافسية الاقتصادية، و ستـزيـد من الاحتقـان الاجتماعي خـدمـة لمـن يتقنـون الخطابات الشعبوية و استغلال الأزمة والتذمر الشعبي. إضافة إلى توفير “مبررات واهية” للتغطية على عجـز الحكـومـة عن الحسم في الملفات والمشاكـل العالقـة، بداعي “وجود مشاكل في الأغلبية”.
ثانيا، ما يجري يهدف في عمقـه إلى مزيـد من إبعـاد الشباب والأطـر المثقفـة والنخب الفكـريـة، وإرهاب النخب الاقتصادية والمالية، لثنيها عن إبداء الرأي في قضايا الشأن العام، أو الانخراط بثقة في مسار المشاركة السياسية. و الهدف واضح لمن يمسكون بخيوط هذه اللعبة القذرة، ألا وهو تحقيق تقليص لنسبة المشاركة في الانتخابات المقبلة، على اعتبار أن “الكتلة الناخبة المنضبطة و القارة و المؤطرة”، ستكفي لتخويل أغلبية نسبية، تمكن الحزب الحاكم من أن يظل ممسكا بالريادة بين الأحزاب.
و بينما دفع واقـع التجـاذبـات والخصام بين الحلفاء، بعض المحللين إلى توقـع ألا تصمـد الحكـومة حتـى سنـة 2021، اعتبر البعض الآخر أن أقل ما يجب هو إقرار تعديـل كبيـر يدفع بعدد من الوزراء خارج الحكومة، و يجدد دماء من “نفس الفصيلة”، لعلها تكون بنقاء وكفاءة أكبـر، “باش سيدي ربي… يتمم ما باقي على خير”. وفي سياق هذه التحاليل، لم نلمس نزوعا للتهدئة و ضبط النفس لدى الفرقاء، بل بالعكس، تم استغـلال الحالة الاستثنائية التي تعيشها الحكومة، من أثـر “الضرب تحت الحزام” بيـن مكوناتهـا، للترويج لحديـث عن “وجـود إرادة لإخراج الحزب الحاكم”، و الإيحاء بأنه مستهدف من “جهة ما” لم يكشف لنا، مرة أخرى، أي من “المتحدثين” هويتها. وآخر فصول هذه المسرحية الهزلية، تجلى في إقدام أقطاب الحزب الذي يقود الحكومة، خلال تأطيرهم للقاءات حزبية، نهاية الأسبوع الماضي، على إطلاق العنان لتلميحات “مسمومة” باحتمال أن تعرف الاستحقاقات الانتخابية المقبلة “شيئا ما” قد يؤثر في نتائجها بفعل “تدخل إداري”.
في الحقيقة، أن يتحدث فاعل حزبي حكومي عن انتخابات ستجرى بعد سنتين، منتشيا من الآن بفوز “أكيد”، أمر وإن كان غير منطقي، لكنه يبقى مقبولا نسبيا. لكن، أن يشكك نفـس الفاعـل السياسي في انتخابات سيقـوم هـو نفسه بتدبيرها بعد سنتين، بحكم موقعه الحكومي، فذلك أمر مثير للاستغراب و يدل على إرادة في الابتزاز السياسي، و يؤكد انحدارا خطيرا في مستوى الخطاب و درجة الوعي السياسي لدى البعض.
وبكل تأكيد، صرنا أمام شكل من العبث السياسي يستجدي التعاطف الشعبي اعتمادا على مظلومية مزعومة، في إطار استراتيجية تواصلية تعتمد التلفيق و التشويه المسبق كممارسة سياسية لا أخلاقية. كما أن ما يحدث ليس إلا هـروبا من المسؤولية، وإقرارا ضمنيا بعدم الكفاءة وبعدم القدرة على تفعيل الاختصاصات الواسعة و السُلط الواضحة المخولة دستوريا للحكومة. و في الحالاتين، فإن ذلك غير مقبول بتاتا.
في لغة الإعـلام، نعرف جيدا أن من يسبق و يخرج إلى الناس بادعاء تعرضه للظلم، ويُحسن “تمثيل دور الضحية”، يمكنه أن يحقق أثـرا بالغا في الأنفس، و لـو لـم يقـم بتحـديـد هـوية من ظلمه أو اعتدى على حقه. بل بالعكس، كلما تُـرك الباب مفتوحـا أمـام التـأويـلات و الاستنتـاجات، إلا و يتشكل “رأي عام” متضامن مع “الضحية” بصورة تلقائية ومبدئية. وربما هـذا هـو المراد والمأمول من طرف أصحاب هذا “الاجتهاد الماكيافيلي”. لكن، ما لا يعيه “المجتهدون” هذه المرة، هو أن الخـدعـة لـن تنطلي على ذكاء المغاربة، كما كان الحال أيام كان “يبكي على المنصة من كان يبكي”.
ويبقى الأهم و المستعجل أمام فقدان التوازن و التخبط، أن تتم لملمة هذه “الفوضى غير الخلاقة”، من طرف بعض أصحـاب عقـل و حكمـة، في صفوف الحزب الأغلبي أساسا، أو من بين حلفاءه “الاستراتيجيين”، الذين عليهم أن يدخلوا على الخط و يطمئنـوا أصحـاب “الأصوات النشـاز”، حتى يكفـوا عن إبـداع خطابات التشكيك والتسفيه، في السـر و العلـن، و كأنهم يهيئون الأجـواء و يرفعون منسوب “اليقظة التنظيمية” في صفوف “الأتباع”، استعدادا لإطلاق “جيل جديد” من التهم الكاذبة و “المبنية للمجهول” بغرض الابتزاز و الإساءة للمسار السياسي لبلادنا.
إن على المعنيين بمثل هذه الممارسات أن يعـوا أن المغرب، بقيادته و بقواه السياسية كافة و بقناعات أبناءه، اختار الديمقراطية والتعددية السياسية، واحترام الإرادة الشعبية المُعبر عنها من خلال انتخابات حرة و شفافة، اختيارا طوعيا لا رجعة فيه. و أن أي حديث عن “كيـد للحـزب الأغلبي”، ما هو إلا اجترار لوهـم يزينه لبعض أصحابه وسواسُهم الخنـاس الذي يملي لهـم فيسيـؤون الظـن بالوطن، بمكر وهم يعلمـون.
و على هؤلاء أن يتذكـروا صـدق الحـرص السيـادي على مبـادئ الديمقـراطيـة وحماية حقـوق الإنسان، وما يعـرفـه الجميـع مـن حكمـة بالغــة، تجلـت بشجـاعـة و قوة في مـواقـف عـاهـل البـلاد، رئيـس الـدولـة، سنة 2003 و سنة 2011، وفي غيرها من الأزمنة والسياقات السياسية منذ 1999، حرصا على المصلحة الوطنية الجامعة، و على إنجاح المشروع المجتمعي المغربي المرتكز على صيانة الهوية المغربية الأصيلة و تعزيز التنمية و العدالة الاجتماعية، و المساواة و الإنصاف، و التحديث والعقلنة، و تقوية الرأسمال البشري و تثميـن الرأسمال اللامادي، و تعـزيـز البناء المؤسساتي للدولة الوطنية على قاعدة سيادة القانون.
و على بعـض الذيـن يتناسـون الفضـل وأهـلـه، أن يتذكـروا كيـف تم التعبيـر لـرئيـس الحكومة، عند اختياره سنـة 2017، “من بين خيارات دستورية أخرى”، بأن رغـبـة “الاشتغـال مع حزبه” لما فيه المصلحة العليا، خيار صادق لا مراء فيه. و من تم عليهم أن لا يتركوا الوسواس يسكن وجدانهم من الآن، و أن يثقوا في دولتهم و في مؤسساتها، لأن لا أحـد يريـد لحكومتهم أن تسقـط، ولا أحد يعمل لكي تُسحب منها الثقة في البرلمان، كما لن تأتي الانتخابات التشريعية و الجماعية التي ستجرى بعد سنتين من الآن، إلا بما سيعبر عنه المواطنون المغاربة، حينها، من نتائـج.
والشيء بالشيء يذكر، حري بالجميع أن يعيدوا التمعن فيما جرى عندما احتل الحزب الذي يقود الحكومة حاليا، المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لسنة 2016، و أن يحللوا دلالات الفعل المؤسساتي الرسمي، الذي تميز بالصبر و طول البال لمدة تجاوزت الستة أشهر، تُـركت بكل أريحية وباحترام للمنهجية الديمقراطية، لعل وعسى يتمكن الأمين العام السابق للحزب المتصدر للانتخابات من النجاح في تشكيل تحالف حكومي منسجم. ولما فشل في مسعاه، تمت المناداة على خلفه وعينه جلالة الملك على رأس الحكومة، كما عين بعد ذلك وزراء حكومته، ثم تقدمت الحكومة لتنال الثقة أمام البرلمان. فلم، إذن، يشكك البعض في كل شيء، و يتوجسون، و يسعون إلى خلط الأوراق مرة أخرى؟
صحيح أن كثيرا من الناس لا يشاطرون الحكومة، و الحزب الحاكم، تصوراتهم لكيفية تدبير الشأن العام، ولا يعتقدون بصواب ما يقررونه من سياسات عمومية ومن “إصلاحات وهمية” نكلت بفئات واسعة من المواطنين، وقضت على الطبقة الوسطى، و كسرت نفسية الشباب وآمالهم. و لكـن رغم ذلك، على المتوجسين أن يثقوا أن هذه الحكومة لن تسقط إلا من خلال ما تتيحه القوانين والأعراف الديمقراطية، وليس عبر شيء آخر يستدعي كل هذه “الجذبة” التي نشاهد أطوارها، نهاية كل أسبوع.
شخصيا أتمنى للحكومة أن تستمـر حتى يشيـع بيـن الناس بـؤس وعنجهية قـرارات بعض المحسوبين عليها، و الذين تبث أنهم “يأكلون الغلة بالنهار، و يسبون الملة بالليل”. فلتستمر الحكومة، و على رأسها “الحزب الأغلبي”، و لتفصح للمغاربة عما بقي في جُعبتها من “مخططات”، و من “فتـوحات ليبرالية متوحشة” تنفـذها بـزعــم “الإصلاح”، حتى يظهر للناس حجـم الخطـأ الكـارثي الـذي سقـط فيه العـديـدون عنـدما كانـوا أمـام صنـدوق الاقتـراع، سنـة 2016 و قبل ذلك سنة 2015، على الأقل.
ويقيني أن المغاربة من منطلق إيمانهم أن مشيئة الله غالبة، سيصبرون على ما هم فيه من قدر محتوم و سيتعايشون مع ما كسبته أيديهم، وسيحتسبون ويستغفـرون لذنوبهم، حتى موعد الانتخابات التشريعية لسنة 2021. و عزاؤنا الوحيد هـو يقيـننا أن الحكومة، حتى وإن استمرت لكامل ولايتها، هي بالنسبة للأغلبية المطلقـة من الشعـب قـد سقطت سقوطا مدويا ، من الآن، و على عـدة مستويات :
أولا، سقوط أخلاقي في امتحان الصدق مع الشعب، و في الالتزام بالعهـود أمام من صوتوا عليهم.
ثانيا، سقوط في امتحان الكفاءة في تدبيـر ملفات التعليم والتكوين المهني والصحة والتشغيل وتشجيع الاستثمار الوطني، ومحاربة الفقر، والتدبير المحلي وتنزيل الجهوية الموسعة، و الحوار الاجتماعي والعلاقة مع النقابات والمهنيين، و الحوار مع المعارضة، و مع المجتمع المدني و… و…
ثالثا، سقوط في امتحان تغليب معيار الانتماء للوطن، حيث طغت الحسابات الحزبية والسياسوية الضيقة، وتم الإسهاب في تعيين الأتباع والمريـديـن في المنـاصب العليـا، ولو كان بعضهم غير مستحقين و لا مؤهليـن لذلك التكليف، عوض فتح أبواب المسؤولية العمومية على قاعدة الاستحقاق و الكفاءة، بدون إقصاء أو استهداف لاعتبارات انتماءاتهم أو ميولاتهم المفترضة.
ليستمر، إذن، الحزب الحاكم و حلفاؤه في مواقعهم، و ليؤدوا مهامهم، و ليكف البعض عن مغالطة الرأي العـام، و إيهام الناس بأن “يدا خفية” ستتدخل لمنعهم من فوز يعتقدونه محسوما لهم في انتخابات سنة 2021.
من سيستطيع من الأحزاب أن يقنع المغاربة بعرضه السياسي، و بنجاعة برنامجه الانتخابي، و بمتانة تصوره لتدبير الشأن العام، و بنزاهة و كفاءة مرشحيه، هو الحزب الذي سيفوز وسيكسب أصوات الناخبين.
ولكن، إذا ما قرر المواطنون المغاربة تصحيح الخطأ و الانتصار للمشروع المغربي الوطني الأصيل و المنفتح على تحديات العصر و مستلزمات التنمية، في وطن يسع الجميع، فلن ينفع “صناع الوهم المروجون لفوز لن يتحقق” إلا أن يقبلوا بنتائج صناديق الاقتراع، و أن يتحملوا رؤية ذلك الفـرح التلقائي وغير المسبوق، الذي سيعبر عنه، حينها، شباب هذا الوطن في كل ربوعه، و ستعبر عنه الأسر المغربية، و كل المهنيين والموظفين، ورجال التعليم و نساءه، و الجامعيين و المحامين، والأطباء ومهنيي الصحة، و رجال المال و الأعمال، و الإعلاميين و الفنانين، و كل الفئات التي عانت من سياسات الحكومة، و سترفع الأعلام الوطنية، ويطلق العنان لزغاريد الفرح و البهجة، من على أسطح المنازل والعمارات، وفي الأزقة والشوارع، كما يفرح المؤمنون عندما يرفع العلي القدير البلاء و يزيل عنهم شره.
(*) متخصص في التدبير و الحكامة
قم بكتابة اول تعليق