حمدونة المؤدّب وأوكتافيو باث

أفق – أحمد فرحات*

لولا صاحب “نفح الطيب” الأديب الشيخ أحمد بن المقري التلمساني (1578 – 1631) لَما سمعنا باسمها، ولَما استمتعْنا ببعض ما تبقّى من شعرها، الذي خوّلها أن تحوز بجدارة لقب “أستاذة شواعر الأندلس”، ثمّ لَقَب “شاعرة الطبيعة”، ثمّ “خنساء المَغرب”، كونها أجادت فنّ قَول الرثاء أيضاً، وتفوَّقت فيه على ما عداها من شاعرات وشعراء الأندلس الكِبار.

إنّها حمدونة بنت زياد المؤدّب، الشاعرة التي ضاع معظم شعرها، وعثر على ما تبقّى منه صاحب “نفح الطيب”، مُنقِذاً بذلك صفحات خالدات من الشعر العربي في تلك البلاد الجميلة التي يأبى العرب أن تغيب عن ذاكرتهم منذ قرون: الأندلس.

عاشت الشاعرة حمدونة، مجهولة تاريخ الولادة ( توفّيت سنة 1204م.)، في مدينة “وادي آش” من أعمال غرناطة الرائعة؛ وهي واحدة من أجمل بقاع الجغرافية الأندلسيّة، وأكثرها فتنة وسِحراً، وتَشتهر بينابيع مياهها المُختلفة: العذبة، الحارّة، الغازيّة، الكبريتيّة الصحيّة. والعذبة بينها، كانت، ولا تزال، ذات صفاء بلّوري عجيب ونقاوة ما بعدها نقاوة.

ومدينة “وادي آش” هي مسقط رأس الشاعر والفيلسوف الكبير ابن طفيل (1105 – 1185) صاحب “حَيّ بن يقظان”، القصّة الفلسفيّة الشهيرة، التي عشقها الغربيّون في ما بعد، أي في القرن السابع عشر، وتُرجمت إلى لغاتٍ عدّة، في طليعتها: الإنكليزيّة والفرنسيّة والروسيّة والصينيّة والألمانيّة والإيطاليّة والإسبانيّة واليونانيّة.

عُرف عن والد الشاعِرة حمدونة، واسمه زياد المؤدّب، حبّه الأدب والشعر والتاريخ والعِلم والفلسفة. وقد ربّى حمدونة، مع ابنة أخرى له اسمها زينب، على ذلك، فأصبحتا شاعرتَيْن من أشهر شعراء الأندلس في زمن ملوك الطوائف؛ على أنّ نَصيب الشاعرة حمدونة من الشهرة، كان أكبر بكثير من نصيب شقيقتها زينب. هذا على الأقلّ ما يعترف فيه لسان الدّين بن الخطيب، الشاعر والفيلسوف والسياسي الأندلسي الشهير( 1313 – 1347) الذي قضى معظم حياته في غرناطة، وخَبر حراكها الثقافي والسياسي، وخصوصاً في زمن بني نصر، حيث كان جزءاً من بلاطهم، وقد نقشت أشعاره على العديد من جدران قصر الحمرا الشهير.

الطبيعة الأندلسيّة وجمالها الأخّاذ، طَبَعا شعر حمدونة إجمالاً، كيف لا وهي مُحاطة بالجنائن المُعلَّقة من كلّ صَوب في “وادي آش”:

” وقانا لفحة الرمضاء وادٍ 

سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا 

حنوّ المُرضِعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالاً 

ألذّ من المدامة للنديم

يصدّ الشمس أنّى واجهتنا 

فيحجبها ويأذن للنسيم

يروع حصاه حالية العذارى 

فتلمس جانب العقد النظيم”.

هكذا تَصف الشاعرة “واديها”، الذي خصّبه الغيث العميم، حتّى ألبسه لاحقاً حلّة خضراء ولا أنضر؛ فإذا بالمَكان كلّه وقد تحوّل إلى دَوحة تجعل كلَّ مَن ينزل فيها بمثابة فطيم تحنو عليه أمّه حناناً ملؤه الدفء والشغف والسقيا الزلال. وتَستطرد الشاعرة في تفاصيل المشهد الجمالي لمدينتها لتصل، حتّى إلى حصى النهر، الذي يروّع العذارى من شدّة نقاء الماء عليه، ولَمعان صورته في الماء، فيَخلْنه لؤلؤاً سقط من أعناقهنّ، فيُسارعن بذعرٍ إلى تلمّس مكان العقود النظيمة في أعناقهنّ، كي تطمئنّ قلوبهنّ إلى أنّ تلك العقود اللّؤلؤيّة هي في مَكانها تماماً، ولم تسقط في القاع.

هكذا يقودنا شعر حمدونة بنت المؤدّب إلى حيث الاعتماد على الحواس والشفافيّة والصُّور الزاهية والشعور المتنامي برَحابة جماليّات المَكان من حولها.

قصيدتها مرآويّة المَشهد، لا تنتهي مطلقاً بأن تذوب في وعي قارئها أو سامعها؛ ولذلك، فعندما نُعيد قراءة أبياتها مجدّداً، نشعر وكأنّنا ننشقّ من جديد عن جماليّات أخرى لا يُمكن حصرها. مهمّة الصورة الشعريّة الواضحة عند حمدونة، هي أن تُغرقنا في كلّ مرّة نطلّ عليها، بهذا الفَيض الجمالي المُباشر، الذي منه ننبجس مُطلّين كذلك على حياةٍ جديدة مُضاعَفة.

وتُمعِن الشاعرة حمدونة في وصف “وادي آش”، مُدمِجةً، هذه المرّة، الكائنات البشريّة وغير البشريّة في مَشاهِد حبلى بالأسرار المُزدوجة، حيث الظباء لها لحظ ترقده لأمر، وهذا الأمر يمنع رقاد الشاعرة.. ودائماً تنعقد المَشهديّة على قاعدة من الدهشة التي تتغذّى بمصل دهشتها:

” أباحَ الدمعُ أسراري بوادي 

له للحُسن آثارٌ بوادي

فمِن نهرٍ يطوف بكلّ روضٍ 

ومن روض يرفّ بكلّ وادي

ومِن بين الظباء مهاة إنس 

سبت عقلي وقد ملكت فؤادي

لها لحظ ترقّده لأمر 

وذاك الأمر يمنعني رقادي

إذا سدلت ذوائبها عليها 

رأيت البدر في أُفق السواد

كأنّ الصبح مات له شقيق 

فمِن حزنٍ تَسربَل بالحداد”.

وحمدونة التي يروي الرواة عنها أنّها كانت غادة أندلسيّة باهرة الحسن والجمال، عرفت شعر الغزل والحبّ، لكنّ حبّها، وكنتيجة لحياتها الريفيّة ذات القيَم الأخلاقيّة المتّسمة بالعفّة، ظلّ في تعبيرها عنه لا يخرج عن حدود اللّياقات. تقول في حبيبها بعدما فارقها وتركَ أثلاماً وجراحات شتّى فيها:

ولمّا أبى الواشون إلّا فراقنا 

وما لهم عندي وعندكَ من ثأر

وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة 

وقلّ حماتي عند ذاك وأنصاري

غزوتهم من مقلتَيك وأدمعي 

ومن نفسي بالسيف والسيل والنار

لكنّ هذه الشاعرة التي عاشت في غرناطة في عصر ملوك الطوائف، كانت في المقابل، تُمارِس، وعلى طريقتها، سياسة توحيد الأمّة وقتها، في وجه أعدائها من الفرنجة. فكانت ضنينة بما يحصل للعرب من فرقة وتنابُذ وتشتُّت وحروبٍ أهليّة أَسهمت في إضعاف الجميع وزوال وجودهم السياسي عن بكرة أبيه.

باث وأمّه الأندلسيّة

في مُحاضرة لها قبل 24 سنة في برشلونة (كان حاضراً فيها كاتِب هذه السطور)، قالَت المُستشرِقة الإسبانيّة الكَتلانيّة كلارا خاليس، المُختصّة بشاعرات الأندلس عبر مُختلف الحقب الأندلسيّة ” إنّ الشاعرة حمدونة بنت زياد المؤدّب، كانت تمسك بتلابيب مُجتمعها، سياسيّاً، واجتماعيّاً، وثقافيّاً. وهي من أوائل الرائدات في التاريخ البشري ممَّن رَسَمْنَ خِطط حقوق المرأة ونِظام الجندرة، وحضّ جماعات نون النسوة على مُمارَسة حقوقهنّ في صُلبِ نُظُم مجتمعاتهنّ، جنباً إلى جنب مع الرجال”. 

وأَردفَت تقول ” إنّ الشاعرات العربيّات الأندلسيّات على وجه الإجمال، لهنّ هذا الدَّين الكبير على البشريّة المُتحضِّرة اليوم، على الأقلّ لجهة ضرورة إعادة قراءة نِتاجهنّ الأدبي ومُعايَنة أدوارهنّ في السياسة والاجتماع والثقافة والحضارة بعامّة، وإجراء المزيد من التضوِئَة على كلّ جانب من جوانب حضارة نساء الأندلس هاته، ومُقارنته بحضارة عصرنا المتطوّر الرّاهن”. ولمّا سألتُها شخصيّاً، وباحترامٍ شديد طبعاً: هل تَعتبرين نَفْسكِ مسؤولة أنتِ هنا؟ ولماذا – في حال مُوافقتك – لا تتولّين عمليّاً إطلاق الشرارة على هذا الصعيد؟ أجابت:” إنّ مهمّتي في ما تبقّى لي من عُمر، تُختزل بهذه القضيّة الكبرى، نظريّاً وعَمليّاً؛ لكنّني، من جهة أخرى، أتمنّى على العرب الحرصاء على ماضيهم الحضاري العتيد في الأندلس، وغير الأندلس، أن يقدّموا لي، ولغيري، يد المؤازرة أيضاً، داخل بلدانهم وخارجها، فجدّاتنا العربيّات الأندلسيّات جديرات بأن نتحرَّك لأجلهنّ جميعاً، ولو في الحدود الدنيا المقدور عليها”.

جدير بالذكر أنّ الشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث (نوبل 1990.. ماتَ في العام 1998 ) كان بين الحضور، وكان حضوره مُثيراً لأسئلةٍ شتّى بالنسبة إليّ، تقبَّلها منّي (طبعاً) بأريحيّة ملحوظة وأجابَ عنها بشكلٍ سريع مُقتضَب (التقيتُه في مَنزله في باريس لاحِقاً، وأجريتُ معه حواراً مطوَّلاً)… قلتُ له مُتسائلِاً: ماذا وراء وجود شاعر كبير مثل أوكتافيو باث في مُحاضَرةٍ كهذه؟

أجابني الشاعر العجوز الوسيم وَقتها: أستمعُ إلى مُحاضرةٍ عن شاعرة عربيّة أندلسيّة مهمّة للغاية بحسب رأي الصديقة المُحاضِرة كلارا خاليس، وقد تبيَّن لي من تضاعيف كلامها في المحاضرة صحّة ما تقول؛ ومن المؤسف أن يضيع القسم الأكبر من نِتاج هذه الشاعرة.

وما رأيك بكلام المُحاضِرة كلاريس عن أنّ الشاعرات الأندلسيّات من طراز حمدونة لهنّ هذا الدَّين الكبير على البشريّة المتحضّرة اليوم؟ أجاب من فَوره: أنا أميل إلى رأيها أيضاً، فحتّى النساء الأندلسيّات الأميّات مهمّات للغاية، وأنا أتكلّم هنا عن تجربة شخصيّة وحميمة بالنسبة إليّ، فوالِدتي أندلسيّة الانتماء والجذور، لم تُساعدها الظروف على أن تدخل مدرسة، ولكنّها هي التي علَّمتني الشعر وشجَّعتني عليه، ولولاها لما صرتُ شاعراً ولا كاتِباً. أمّي أجَّجت العدم أمامي بضَوء الشعر، وكانت – على المَقلب الآخر – أداة مُشارَكة مُباشرة لي، لا أداة انعزال وهروب من المُواجَهات النقديّة المسؤولة التي زَرَعَتْها فيّ.. أمّي الأميّة الأندلسيّة قالت لي إنّ الفكر في الشعر هو الذي يقود العالَم ويُغيّره.

ولنفترِض أنّ أمّكَ كانت مثل الشاعرة الأندلسيّة حمدونة بنت زياد المؤدّب، عِلماً وثقافة، فكيف تتصوَّر سيكون وقع النتيجة عليكَ وعلى المجتمع الأندلسي؟ وهل تشعر أنّكَ أندلسي أصلاً من خلال أمّك؟

هنا انتفضَ الشاعر أوكتافيو باث قائلاً بنبرة أعلى: نعم، أنا أندلسي مائة في المائة. صحيح أنّ والدي كان مكسيكيّاً، ولكنّه في عُمق أعماقه كان سليل أنسابٍ أندلسيّة بالبرهان والاستدلال. وأن تكون أندلسيّاً، يعني في النتيجة أن تكون الإنسان الذي لا يقنع بغَير نشدان الكمال.. ولو أنّ أمّي كانت على غِرار حمدونة – وهي على غِرارها في أشياء كثيرة – لكانت قد عَبَرَت من مَعرِفة النَّفْس إلى مَعرِفة الوجود على نحو أوسع وأكثر تحرّقاً للاكتشاف؛ فالعِلم، كبوّابة عقلانيّة يُرتِّبُها مَنهجُه المُنظَّم، كان سيزيدها مضاءً في ترتيب الأمور والقبْض عليها، ولكنْ دائماً من غير أن يُقيُّدها أو يُطفىء فيها أيّ حيويّة كانت ترى من خلالها أنّها عالَمٌ خاصّ داخل هذا العالَم العامّ. 

*مؤسّسة الفكر العربي

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


− 1 = 1