أفق – محمود حيدر*
تسعى هذه المقالة إلى مُعايَنة التحوّلات المعرفيّة التي تشهدها المجتمعات الغربيّة المُعاصِرة لجهة عودة سؤال الدّين ليتَّخذ مساره المُستأنَف في ما سمّي بزمن الحداثة الفائضة . وما من ريب في أنّ مُعايَنة كهذه ترتِّب مُتاخَمة نظريّات العَلمَنة في صِلتها بالدّين والآثار المترتّبة عن ذلك سحابة قرون من أزمنة الحداثة. فلقد ظهرت العَلمَنة كحاصلِ احتدامٍ مرير مع المسألة الدينيّة. وتبعاً لهذا الحال، ما كان لينفسح الضباب عن ماهيّة العلمانيّة، بمنأى من هذه المسألة. بل ثمّة مَن يمضي إلى مَطارِح أبعد ليبيِّن أنّ العَلمَنة الغربيّة وُلِدت من الرَّحم الحارّ للديانتَين اليهوديّة والمسيحيّة؛ ولهذا لم يستطع نُظّار العلمانيّة ومفكّروها أن يعربوا عن مُنجَزهم المَعرفيّ على نحو بيِّن، إلّا ضمن حكاية كان للدّين فيها مكانة محوريّة.
لقد شَهد الغرب الثقافي على امتداد قرون مضت مُساجلات لم تهدأ استحقَّت فيه عبارةُ “إزالة السحر عن العالَم” (désenchantement) عقلَ الحداثة الغربيّة برمّته. كان الدّين على وجه الحصر هو المقصود من العبارة التي تحوّلت مع تقادُم الزمن إلى ما يشبه الأيقونة الإيديولوجيّة. وفي خلال قرون متواترة من اختبارات الحداثة، لم يفارق الدّين – بجناحَيه اللّاهوتي المؤسّسي أو الإيماني الفردي،- التساؤل الذي يسري بخفر في حقول التفكير. وإذا كانت أيقونة “إزالة السحر” قد آلت إلى مخزن الذاكرة الغربيّة، فإنّ آثارها وتداعياتها لا تزال مُحايثة للفضاء النخبوي العربي عبر استظهارات شتّى. تارة بالدعوة الى الإصلاح الديني، وطوراً بفَصْل الدّين عن الدولة، وثالثة بالتنظير إلى العَلمَنة الشاملة والتحديث وتوطين التقنيّة.
غير أنّ مُنقلباً في عالَم المفاهيم سيُقيم الجدل حول العَلمَنة والدّين على منشأ آخر. فلم يكد القرن العشرون يطوي سجلّه المكتظَّ بالأفكار والأحداث والحروب الكبرى، حتّى قَفَل الغرب عائداً إلى أسئلة بَدئيّة كان طواها سحر الحداثة وضجيجها. مِن أظْهَر تلك الأسئلة، ما عَكسته مناخات الجدل المُستحدَث في ما أسموه “رجوع الدينيّ” ليتبوَّأ مكانته في فضاءات التفكير الغربي. وعلى غالب التقدير فقد بدا الكلام على حضور المسألة الدينيّة في ثقافة الغرب المُثقَلة بعَلمانيّتها الحادّة قضيّة معرفيّة وحضاريّة تحظى بعناية وازِنة. لكنّ هذا السؤال لم يُفارِق أرض الحداثة سحابة القرون الخمسة من عمرها المديد. كذلك لم يغادر الدينيُّ هواجس الغرب وتعقُّلاته، لا في حداثته الأولى، ولا في أطواره ما بعد حداثيّة. كأنّما قدرٌ قضى أن يظلّ الدّين – والديانة المسيحيّة على وجه الخصوص- باعثَ الحراك في الفلسفة والفكر والثقافة والاجتماع.. حتّى لقد بدا أشبه بمرآة صقيلةٍ يَظهر على صفحتها الملساء حُسنُ الحداثة المزعوم. فالدّين، على ما يُبيّن فلاسفة التنوير، لم يكُف عن كونه وظيفة أبديّة للروح الإنساني. لهذا راحوا يُنبِّهون إلى ضرورة ألّا تتنازل الفلسفةُ يوماً عن حقّها في بحث المشكلات الدينيّة الأساسيّة وحلِّها. هكذا سيرى فيلسوف الدّين الروسي نيقولا برديائيف، ثمّ يمضي ليبيِّن أنّ لليقظات الفلسفيّة دائماً مَصدراً دينيّاً. وفي اعتقاده أنّ الفلسفة الحديثة عموماً، والألمانيّة خصوصاً، هي أشدّ مسيحيّة في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط، حيث نفَذَت المسيحيّة، برأيه، إلى ماهيّة الفكر نفسه ابتداءً من فجر عصور الحداثة – N. Berdyaev: the Russian Revolution,1961
لم تكُن التنظيرات التي استهدَفت تظهير الدّين كحاضرٍ أصيل في التاريخ سوى أحد تعبيرات المَلحمة النقديّة التي واجهتها الحداثة تلقاء موقفها من الإيمان الديني. صحيح أنّ العَلمَنة الحديثة لم تقدر على استئصال البُعد الروحاني للإنسان، لكنّها تمكَّنت – نظير ذلك- من استنزاله إلى أدنى مَراتب الاهتمام الأخلاقي. وما ذاك إلّا لشغفها بليبراليّة المجتمع المفتوح، واستغراقها في تعظيم الذّات الفرديّة، وسعيها إلى الاستقلال المفرط عن أيّ معياريّة أخلاقيّة تنظِّم الاجتماع البشريّ على مبدأ الرحمانيّة والعدل.
لم تلبث العلمانيّة – وهي على هذه الحال – أن تحوَّلت إلى “لاهوتٍ أرضي” أو على الأبيَن، إيديولوجيا تُلهِم الدولة والمجتمع والمؤسّسات. من أجل هذا لم تستطع مجتمعات الحداثة ان تجد ما يُطمْئِنها إلى عَلْمنةٍ تحوَّلت في قليلٍ من الوقت الى سلطة لاهوتيّة قهريّة تُصدِر أحكامها بلا هوادة. حتّى إذا آنت ثورة النقد تهافت يقينها، وآل كلّ شيء لديها إلى حضرة الشكّ؛ حتّى قال الذين اكتووا برمضاء الخَيبة: علمانيّة التنوير ماتت، الماركسيّة ماتت، وكذلك حركة الطبقة العامِلة. وأمّا المثقّف فقد بات لا يشعر بأنّه على ما يرام أو أنه أوشكَ على الموت. وتبدو الصورة على أتمِّها حين تُنقد العَلمَنة من أهلها. ولسوف نجد أنّ فلاسفة التنوير المُستحدَث هُم أوّل من افتتَح مُغامَرة النقد ونَزَع الغطاء عن مَعايب الحداثة ومَعاثرها.
هل تعني عودة القضيّة الدينيّة الى المجتمعات العالَميّة، والمجتمعات الغربيّة على وجه الخصوص، غياب العلمانيّة أو انكفاءها عن حضورها التاريخي؟
الجواب الابتدائي كما تُشير إليه صورة النقاش بين النّخب الغربيّة نفسها لا تقرّ بمثل هذه المُعادَلة. لذا ستأخذ حلقات التفكير مساراً آخر لا يقوم على قانون النفي والإثبات، وإنّما على سعيٍ للعثور على منطقة وسطى تؤسِّس لتسوية المشكلة.
لا ريب بأنّ “رجوع الديني”، هو عنوان إشكالي سيكون له آثاره البيِّنة على المَفاهيم والأفكار والقيَم التي تجتاح المجتمعات الغربيّة اليوم. من بين تلك الآثار ما ينبري إلى تداوله جمعٌ من فَلاسفة الغرب ومفكّريه سعياً للعثور على منظورٍ مَعرفي يُنهي الاختصام المديد بين الدّين والعَلمَنة، والذي تسالَمَ عليه الجمعُ في ما عُرف بنظريّة “ما بَعد العلمانيّة”، هو أحد أكثر النوافذ المُقترَحة حساسيّة في هذا الاتّجاه. ما يعزِّز آمال القائلين بهذه النظريّة أنّ أوروبا الغنيّة بالميراثَين العلماني والديني قادرة على إبداع صيغة تناظُر تجمَع الميراثَين معاً بعد فِرقة طال أمدها. ربّما هذا هو السبب الذي لأجله ذهب بعض منظِّري “ما بعد العلمانيّة”، ومنهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، إلى وجوب تخصيص إطار مرجعي يحضن أهل الديانات وأتباع العَلمَنة سواء بسواء بغية العَيش المُتناغِم في أوروبا تعدديّة.
شَغَفْ التساؤل حول صيرورة الاحتدام الديني العلماني ومآلاته، لم يتوقّف عند هذا المفرق.. كان ثمّة منحى آخر تُترجِمُهُ المُحاورات الهادئة بين اللاَّهوت والفلسفة. واللّقاء المُثير الذي جَمَع في بداية العام 2004 البابا بينيدكتوس السادس عشر إلى الفيلسوف هابرماس، شكَّل في العمق أحد أبرز منعطفات التحاور الخلاّق بين الإيمان الديني والعَلمَنة في أوروبا. ومع أنّ اللّقاء لم يُسفر يومئذٍ عمّا يُمكن اعتباره ميثاقاً أوليّاً للمُصالَحة بين التفكير اللّاهوتي والتفكير العلماني، إلّا أنّه أَطلقَ جدلاً قد لا ينتهي إلى مستقرّ في الأمد المنظور.
اللّقاء الفريد بين الرجلَين، ظَهَّرَ المسلَّمات التي ينبغي الأخذ بها لتحصين كرامة الإنسان في زمن بلغت فيه اختبارات الحداثة حدَّ التهافت. وَجَد هابرماس في العقل العَملي لـ”الفكر ما بعد الميتافيزيقي العلماني” نافذة نجاة.. بينما وجده البابا بنيديكتوس في الإنسان كمخلوق إلهي. يومها اعترف هابرماس باستعداد الفلسفة التعلُّم من الدّين. كان لسان حاله يقول: ما دام العقل لم يستطع القضاء على الوحي في فضاء علماني، فلْيهتمّ الفيلسوف بالإيمان عوض الاستمرار في الحرب معه. ثمّ أصرَّ على ضرورة أن توليَ الدولة المشرِّعة للقوانين كلّ الثقافات والتمثُّلات الدينيّة عنايتها، وأن تعترفَ لها بفضاءٍ خاصّ في إطار ما سمّاه بالوعي “ما بعد العلمانيّ” للمجتمع. أمّا إجمالي ما ذهب إليه البابا فهو دعوته إلى تحصين الحضارة الغربيّة المُعاصِرة عبر خمس ركائز: التعاون بين العقل والإيمان؛ مُواجَهة التحدّيات الجديدة التي تُواجه الإنسان؛ فكرة الحقّ الطبيعي كحقّ عقلي؛ التعدّد الثقافي كفضاءٍ لارتباط العقل والإيمان؛ العقل والإيمان مدعوّان لتنظيف وإشفاء بعضهما البعض…
لو كان لنا من عبرةٍ تُستخلَصُ ممّا دار بين اللّاهوتي والفيلسوف، لقلْنا إنّ ما حصل هو أشبه بإجراء يُنبئ بانصرام تاريخٍ غربيّ كاملٍ من الجدل المُزمِن حول “بِدعة” الاختصام بين الوحي والعقل. لكن ماذا لو افترضنا بناءً على ما مرّ، أن تكون صنيعة ما بعد العلمانيّة هي منطقة التوسّط الفضلى بين نقيضَين شكَّلا محوَر اهتمام مثل سواها من المفاهيم التي استحدثتها الحداثة يجري القول على فكرة “ما بعد العلمانيّة” مجرى البدايات والنهايات. أي على بَدءٍ جديد يلي انتهاءات مضت. والأحاديث عن موت المفاهيم في ثقافة الغرب عمرُها عمرُ الحداثة. بل هي أحاديث لم يتوقّف سَيلُها منذ أوّل نقدٍ “لتنويرٍ” مالَت شمسُه إلى المَغيب مع المنعطف الميتافيزيقي الذي قاده كانط وهو يُعاين مَعاثِر العقل المحض وعيوبه. لم يكُن شَغَفْ العقل الحداثي بختم المفاهيم والإعلان عن نهايتها إلّا لرغبة ببدءٍ جديد. فالتاريخ ليس حركة انتقال من الخواء إلى الملاء، وإنمّا هو امتدادٌ جوهريٌّ بين الما قبل والما بعد. فكلّ مقالة عن نهاية أمرٍ ما، إنّما هي ضربٌ من إعلانٍ مضمر عن بَدءٍ لأمرٍ تالٍ من دون الحكم عليه بالبطلان، في ذلك شَبَهٌ، بنسبة ما، مع تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا ليُظهر أنّ إنهاءها هو التملّك الفعلي لها وليس نبذها أو الإطاحة بها. فالانسحاب والتواري داخل السلالة الواحدة، لا يدلّ بالضرورة على فعليْن مُتناقضيْن يريد كلٌّ منهما نفي نظيره. ولذا فإنّ المسرى الامتدادي بين الما قبل والما بعد لا ينشط على سياق آليّ، كأن يتحرّك من النقطة ألِف إلى النقطة ياء من دون أخذ وعطاء، فذلك ليس من طبيعة المسرى الذي نحن في صدده، وإنّما هو فعاليّة متضمَّنة في جوهر حركة التاريخ التي تتأبَّى على الانقطاع والفراغ.
مثلما وُلدت الحداثة الفائضة من فضاء المُراجعات التي عصفت بالحداثة الأولى وما بعدها، كذلك وُلدت “ما بعد العلمانيّة” كمُجاوَزة لما اقترفته العَلمَنة من مَعايب ظهرت قرائِنُها صورة إثر صورةٍ وحدثاً إثر حدث.
الجدير بالإلفات الى أنّ تعبير الحداثة الفائضة جاء توصيفاً لحالة ما بعد الحداثة في لحظتها القصوى. وهي اللّحظة التاريخيّة التي بلغتها إثر تحوّلات عميقة في نظام القيَم، حيث لم يعُد بمستطاع العقل التقني الذي استظلّت به اللّيبراليّات الجديدة، أن يُواجِه أسئلة حَجَبتها الحداثات المُتعاقِبة منذ عصر التنوير إلى يَومنا الحاضر. أمّا مقصودنا من تعبير “الحداثة الفائضة” فقد ارتأينا تقديمه كمُقترح مفهومي يستجيب لمُقتضيات اللّحظة التي أشرنا إليها، ويستند الى فرضيّة أنّ الحداثة وصلت إلى ختامها بعدما فاضت عن حاجتها لتتدفّق على نحو مريع، وتُغرِق العالَم بفوضى رقميّة لا تعرف الحدود والضوابط.
* باحث في الفلسفة من لبنان
قم بكتابة اول تعليق