أفق – د. غسّان مراد*
الأبحاث التي تُعالج التغيُّرات التي تحصل في مجال الإعلام جرّاء ثورة التقنيّات المُتغازِرة، نادراً ما تتطرّق إلى مجال الإذاعة، ولكن من البديهي أنّ الثورة في المُمارسات الإعلاميّة التي أرساها الإنترنت غيَّرت كلّ شيء، ومن الطبيعيّ أنّها تُغيِّر في الإذاعة أيضاً.
هذا ما نحاول طرحه في هذه النصّ بعدما أصبحنا في حقبة “الويب راديو” الذي يسمح بالوصول إلى آلاف الإذاعات العالَميّة، فهل تؤثِّر هذه التغيُّرات في طُرق الاستماع إلى الإذاعة؟ وهل وصلنا إلى المعلومات الإذاعيّة الكونيّة؟
راديو مصوَّر، راديو معزَّز، راديو متّصل، راديو 2.0، راديو اجتماعي. لا يزال من الصعب العثور على اسمٍ دقيق، ولكنْ ثمّة أمرٌ مؤكَّد وهو أنّ الراديو يشهد ثورة حقيقيّة. حالة تذهب إلى حدّ تعديل جوهرها، أي الصوت، فقد وَصلت الصورة وسَيطرت الكاميرات على الاستوديوهات. لم تعُد المحطّات تتردَّد اليوم في تصوير برامجها الرئيسة للبثّ المباشر أو المسجَّل.
كما نعلم، بدأ العالَم يحتفل باليوم العالَمي للإذاعة منذ 11 عاماً. عام 2022، كان شعار الاحتفاليّة “الإذاعة والثقة”. أمّا هذا العام 2023، فإنّ الشعار هو “الإذاعة والسلام”. عدم الثقة ازداد في السنوات العشرين الأخيرة بعد انتشار شبكات التواصُل عالَميّاً، إضافة إلى أنّ كلّ مَن استطاع كتابة خبر أو نشْر خبر صوتي بحسب تقنيّات بودكاست (podcasting)، أعتقدَ أنّه أصبح مذيعاً، كما هو الحال مع باقي وسائل النشر المُباحة، التي ساعدت في تفشّي الاخبار الزائفة الآتية من التغيُّرات في سلوكيّة المُستخدِمين الذين يصدّقون هذه الأخبار، لكونها تحمل في محتواها نَوعاً من الإثارة عند المتلقّي، الذي كان من المُفترَض به أن يكون مُحترِساً أكثر.
كما أنّ مفهوم الثقة يُطرح في الإذاعة، لأنّ مَن يعمل في الإذاعة عليه الالتزام بأخلاقيّاتها. وإذا راقبنا بعض الإحصاءات العالميّة في ما يرتبط بثقة الناس بالإعلام، فقد تبيَّن أنّ 52% من الفرنسيّين يثقون بالراديو. وبحسب الإحصاءات الغربيّة، فإنّ توزيع المُستهلِكين في أميركا هو ثلث للتلفزيون وثلث للإنترنت وثلث للراديو. أمّا في فرنسا، فإنّ نسبة الاستماع إلى الراديو تُقارب 3 ساعات يوميّاً. بالنسبة إلى العالَم العربي، تبيَّن أنّ نسبة الاستماع إلى الإذاعة هي نحو ساعة ونصف ساعة يوميّاً.
تاريخيّاً، أوّل مَن استفاد من تطوُّرات الرقْمَنة كان الراديو، وذلك بعد اختراع الترانزيستور الذي أدّى إلى أن يُصبح الراديو وسيطاً متحرِّكاً. وبعد ذلك، تطوَّر في الثمانينيّات من القرن الماضي إلى الراديو الرقمي الأرضي مع استخدام الهيرتز (Hertz). وفي أواخر العام 1990، بدأ البعض تجربةَ الإذاعة بالوسائط المتدفّقة على الإنترنت (streaming). وكلّما زادت قدرة التبادُل على الشبكة، زادت قوّة البثّ الإذاعي.
من الناحية التقنيّة، الرقْمَنة في البثّ أدَّت إلى تطوُّرٍ هائل في عالَم الإذاعة. هذا ما تبيَّن عند ظهور الهواتف الذكيّة التي تساعد في انتشار الإنترنت، وبالتالي انتشار البثّ الإذاعي عبر الأجهزة. وفي ما يتعلّق بالوصول، فإنّ البثّ على الإنترنت، إضافةً إلى البثّ الأرضي الهرتسي، أتاحَ زيادة تعرُّض الجمهور للراديو بفضل مجموعة واسعة من طُرق الاستقبال المُتاحة.
ويُمكن زيادة إبراز هذا الاتّجاه في السنوات المُقبلة بفضل تطوير “الكائنات المشبوكة” وميزات استمراريّة الاستماع على مختلف المحطّات الطرفيّة. كان للانتقال من الموجات الطويلة (AM) إلى الموجات ذات النموذج “تعديل التردُّد” (FM) (أي تشكيل مَوجة راديو أو موجة أخرى من خلال تغيير تردّدها بخاصّة لحمل الإشارات الصوتيّة)، أثره الكبير في انتشار الإذاعات عالَميّاً.
أدّى التحوُّل الرقمي إلى ظهور استخداماتٍ جديدة، ولاسيّما الاستماع إلى برامج مباشرة خلال بثّها أو غير مباشرة، من خلال انتقاء المُستمع ما يريد في وقتٍ محدَّد يُناسبه، وجرى إثراء الإذاعة بوسائط متعدّدة وبياناتٍ تفاعليّة وفيديوهات.
هناك طريقة أخرى واعدة لتغيير الاستخدامات التي يوفِّرها الويب هي طريقة التخصيص. بَدأ بعض الناشرين بالفعل في تخصيص برامجهم، ولاسيّما عن طريق تقسيم محطّات الراديو الخاصّة بهم إلى محطّاتٍ إذاعيّة عدّة مستقلّة على شبكة الإنترنت تستهدف المستمعين ذوي الأذواق والرغبات المُختلفة.
إضافةً إلى راديو الإنترنت، بَدأ يظهر راديو الستلايت، وعلى عكس الراديو الكلاسيكي (الهوائي وأجهزة الإرسال)، فإنّ راديو الأقمار الاصطناعيّة يَستخدم أقماراً اصطناعيّة بسيطة كمرسل وهوائي ليغطّي مساحات كبيرة، وهذا ما يحصل حاليّاً في أميركا الشماليّة، ولكنّ هذا الراديو لا يلاقي رواجاً كونه غير مجّاني، والولوج إليه يجري عبر الاشتراك، وهو بحاجة إلى أجهزة استقبال محدّدة.
وإذا كان الراديو هو الجهاز الأوّل المتنقِّل قبل الأجهزة الإعلاميّة، فمن المُمكن اعتبار أنّ الإذاعة هي أمّ الثقافة المحمولة، وأنّ الراديو كان سبّاقاً في الترحال التواصلي.
وما يُثري الإذاعة هو أنّ الصوت وُلد منذ أن وُلدت اللّغة. وعلى الرّغم من أنّنا في عصر الصورة، فالصوت يصل مباشرةً إلى الدماغ من دون عوائق أو شوائب. وفي أغلب الأحيان، من دون تمثيل ذاتي للمعلومات. كما أنّ هذه الأداة هي الأكثر عفويّة عند البثّ الإعلامي، وهي الأكثر عفويّة خلال تصوير البرامج وعرضها على شبكات التواصل كتسجيلات فيديو…
ومع ذلك، فإنّه من تبسيط الأمور التحدُّث عن الراديو المصوّر فقط، والأكثر حكمةً طرح مصطلح راديو 2.0 أو راديو مرئي، إذ إنّ الأسبقيّة الرقميّة والترانسميديا والتكامل على الفيديو بات ضروريّاً. الإذاعة عمليّة سهلة، وليست بحاجة إلى مَوارد طائلة، وهي متعدّدة المحتوى.
ولن ننسى أنّ العديد من البلدان في العالَم ما زال ذا ثقافة شفهيّة. لذلك، فإنّ راديو الإنترنت هو الوسيلة التي تساعد في إيصال المعلومة إلى هذه الشرائح الاجتماعيّة. التقنيّات أتاحت للراديو أن يتناسب مع ثقافة “الزابينغ” من خلال اختيار ما نريد الاستماع إليه. الإنترنت له خصائص ثوريّة عدّة، وعلى الراديو أن يستفيد منها، كالتصفُّح والتفاعليّة والتشعبيّة والانتقائيّة والتخصّصيّة والشخْصَنة وتطبيقات الترجمة الفوريّة. وقد استطاع الراديو أن يتأقلم مع هذه التغيّرات.
الصورة أضعف من الصوت
إذا كان هناك وسيط لم يتأثَّر بالتقنيّات سلباً، فسنقول إنّه الإذاعة. ولكن على الإذاعة أيضاً أن تتأقلم مع التغيُّرات التي أصابت سلوك المُستهلِك للمعلومات. إنّ إنتاج محتوىً مستقلّ وعالي الجودة (جودة الصحافة الأخلاقيّة) والثقة في وصول المعلومات إلى كلّ الناس مُتاحان من خلال الإذاعة من دون تغطية للموجات، فضلاً عن الثقة بالوصول إلى الأماكن غير المؤهَّلة بالموجات الصوتيّة.
وقد تمَّ ابتكار تطبيقات تسمح بوصول المحتوى إلى مَن يُعانون من ضعفٍ معيَّن في السمع أو في البصر (كتابة البراي) وتطبيقات الترجمة الآليّة والتوليف الآلي للصوت… وهنا، ثمّة دَور في ذلك لتقنيّة الداب+ (digital audio broadcasting) والواي فاي.
البرودكاستينغ والراديو الفضائي ليسا تقنيّات بحدّ ذاتها. هذه التقنيّات تغيِّر الطريقة التي نستهلك بها الراديو. ولكن هل هذه التقنيّات ستغيِّر جوهريّاً في الإنتاج الإذاعي؟ بالتأكيد، البرودكاستينغ يساعد كثيراً في انتشار الإذاعة. كما أنّ التقنيّات أتاحت لأيّ شخص أن يُصبح صانعاً لمحتوىً صوتي، وهذا سيؤثِّر في الإذاعة.
طبعاً، ثمّة العديد من التطبيقات المفتوحة المصدر التي تسمح بالإنتاج لمَن يريد من الهواة إنشاءَ محتوىً إذاعيٍّ خاصّ به. وإضافةً إلى المجموعة المفتوحة المصدر برودكاستينغ والستريمنغ (تدفُّق الوثائق)، من المُمكن القول إنّ فيروس كوفيد 19 أعاد نسبيّاً الثقة بوسائل الإعلام، على أساس أنّ العالَم بات بحاجة إلى أن يستمع إلى الأخبار من المؤسّسات الإعلاميّة، وخصوصاً الراديو، بحسب الإحصاءات الأخيرة، ما أدّى إلى زيادة الثقة خلال مَوجة الكورونا في الإذاعة.
وبحسب التطوُّر الحاصل، فإنّ مستقبل الإذاعة هو في الـ DAB+ الراديو الرقمي الأرضي، وهذا هو التوجُّه العالَمي والتطوُّر الطبيعي للـ FM. من خلال تقنيّة “الداب”، من المُمكن البثّ لإذاعاتٍ عدّة مُجتمعة من ضمن ما يسمّى متعدّد الموجات، فهو مجّاني ومن دون اشتراك، ومن المُمكن أن نستمع إليه في أيّ مكان وزمان من دون تشبيك.
والإضافات إلى هذا الراديو متعدّدة: مزيد من البرامج، مزيد من الخصوصيّة في الخيارات الشخصيّة، مزيد من التنوُّع المحلّي والعالَمي وحسب الموضوع، مزيد من الإذاعات المؤقّتة بحسب الحاجة، مزيد من العفويّة في البحث يتبع طريقة التنقيب عن المعلومات الألفبائيّة، مزيد من الجودة في الصوت، لأنّ الموجة الرقميّة الثنائيّة تختلف عن الموجة التناظريّة (analogique)، مزيد من التنقُّل، مزيد من المعلومات متعدّدة الوسائط، مزيد من أجهزة الاستقبال، مزيد من المرونة، مزيد من المعلومات حول البرمجيّات اللّاحقة، وأخيراً مزيد من التغطية.
الثورة الفعليّة هي انتقال البثّ من “واحد إلى متعدّد” إلى حالة من “متعدّد إلى متعدّد”. عندها، يصبح الراديو أكثر تفاعليّة، إذ سيشكِّل المُستمِع جزءاً من البرمجة. الراديو أصبح مُدمَجاً مع تقنيّات المساعدين الصوتيّين، مثل أليكسا وسيري (Alexa & siri)، الأدوات المشبوكة باتت كلّها أدقّ للبثّ الإذاعي.
نظراً إلى المُعاناة التي يعيشها العالَم جرّاء الأخبار المزيّفة، يبقى الراديو الجهاز الأكثر صدقيّة وموثوقيّة من باقي الأجهزة المُستخدَمة في نقل المحتوى. تتكيّف العديد من التقنيّات القائمة على المعلوماتيّة في السحاب وجمعها معاً واستكشافها وتشجيع اعتمادها من قِبَلِ المُجتمعات المحليّة وتصميم نماذج للإدخال لهذه التقنيّات في جميع أنحاء العالَم الذي لا تصل إليه الذبذبات الإذاعيّة.
بالنسبة إلى ما يسمّى الجيلz، الذين يستخدمون الراديو التقليدي قليلاً أو لا يستخدمونه على الإطلاق، لكنّهم دائماً مع شاشة في أيديهم، يجب أن تكون المحطّات الإذاعيّة موجودة في وسائل الإعلام التي يفضّلونها، من خلال التكيُّف قدر الإمكان وتقديم عرضٍ يستحقّ ذلك حقّاً، أي مع المحتوى الأصلي.
وإذا كان لا بدّ من تنسيقه بشكلٍ أفضل مع الشبكات الاجتماعيّة، فإنّ له ميزة، لكونه الوسيط التفاعلي الأوّل، فالراديو أقلّ ضعفاً من وسائل الإعلام الأخرى بسبب التطوُّر التكنولوجي.
إنّ إضفاء الطّابع الديمقراطي على الهواتف الذكيّة، وظهور تقنيّة 4G، والألياف الضوئيّة، وانخفاض الأسعار والحِزم الشاملة التي يقدّمها مشغّلو الهاتف ومزوِّدو الوصول إلى الإنترنت، قد مكَّن المُستمعين من مضاعفة وسائط المعلومات الخاصّة بهم، لكنّ المحطّات اضطرَّت في الوقت نفسه إلى إعداد محتوىً معيَّن، لا يمرّ من دون تغيير ممارسة المهنة، ومن ثمّ ردود الفعل التي لا تكون إيجابيّة دائماً: هناك بعض التردُّد، نَوع من التخوُّف: الراديو يبقى سحرَ الصوت، لكنّنا لن نُجبِر أيَّ شخصٍ على تصويره. على العاملين في الإذاعة مُرافَقة الناس، شرح المشروعات، القيام ببعض التربية. مهنيّاً، يجب متابعة كلّ هذه التطوُّرات.
ما تقوله الصورة أضعف بكثير ممّا يقوله الصوت. ربّما سنستمرّ في الاستماع إلى الراديو بعد مائة عام، لأنّ الإعلام عن طريق الأُذن أهمّ من الإعلام بالصور، على عكس ما نعتقد.
ونردف استطراداً، يُعَدّ الصوت “ثلاثيّ الأبعاد” خطوة جديدة في الانغماس الصوتي لبرنامج راديو. ولكن لا يزال من الصعب معرفة ما إذا كان الراديو في الصوت ثلاثي الأبعاد سينتشر على نطاقٍ واسع، عندما نفكِّر في فشل تنبّؤاتٍ معيّنة حول التلفزيون ثلاثي الأبعاد، وكذلك حدود تقنيّتَيْ الصوت المكاني المذكورتَيْن أعلاه. نظراً إلى أنّ الغمر الصوتي يتضمَّن أيضاً جودة الصوت، يُمكننا قريباً أن نتوقَّع تحسُّناً كبيراً في هذا المجال، بفضل رقْمَنة البثّ وتعميم السرعة العالية جدّاً واستخدام تنسيقاتٍ جديدة للترميز الصوتي الفعّال بشكلٍ متزايد.
حتّى الآن، فإنّ مقولة أنّ الثورة تدمِّر تماماً ما يسبقها غير مُثبتة. فنحن إذا كتبنا، فذلك لا يعني أنّنا توقّفنا عن الحديث، ونحن إذا طَبَعْنا، فذلك لا يعني أنّنا توقّفنا عن الكتابة، ونحن إذا ملكنا جهازَ كمبيوتر، فذلك لا يعني أنّنا سنتوقّف عن الطباعة.
وقد رأينا أنّ الإذاعة تتأقلم مع كلّ التغيّرات التقنيّة، فكيف سيتغيَّر الراديو مع تطوُّر الرقمي نحو الافتراضي الميتافرس؟ إنّه سؤالٌ من ضمن الأسئلة التي يجب طرحُها أيضاً. هل سيكون هناك توائم للمُذيعين أو سنشهد نَحْتَ مصطلح “راديوفيرس” كمزيجٍ بين مفردة الراديو ومفردة “يونيفرس”؟
*كاتب وأكاديمي من لبنان
قم بكتابة اول تعليق