أفق – د. محمَّد حلمي عبد الوهَّاب*
ما من قضيّة فكريّة احتلَّت الصَّدارة في المناقشات العربيّة الإسلاميّة إبَّان عصر النَّهضة على النَّحو الذي شغلته قضيّة أو إشكاليّة العلاقة بين الدّين والدَّولة في الـمجالَيْن الثقافيّ والسياسيّ على حدّ سواء. فقد احتلَّت مساحة شاسعة من اهتمامات الـمثقّفين العرب والـمُسلمين وكِتاباتهم وفي وجوه تأمُّلهم في الـحاضر والتَّاريخ. والواقع الذي لا شكَّ فيه أنَّ ملفّ العلاقة بين الدّين والدَّولة يُشكّل جزءاً من ظاهرةٍ أعمّ وأشمل؛ هي ظاهرة “الصَّحوة الإسلاميّة” التي مثَّلت في النّصف الثاني من القرن العشرين نزوعاً غلَّاباً للعودة إلى الدّين تحت وطأة هواجس وأشكال وعي تنصبُّ، بحسب رضوان السيّد، في اتّجاهَيْن اثنَيْن: اتّجاه الـخوف على الـهُويّة الإسلاميّة وإمكانات ضياعها في ظلّ الـهجوم الـجارف للغرب والـحداثة التي يُمثّلها، واتّجاه الإحساس بالذَّنب، إذا صحَّ التعبير، لِما اعتُبر ابتعاداً عن الدّين، وإهمالاً لمتطلّباته، وتأويل ما أصاب الـمُسلمين في القرنَيْن الأخيرَيْن، باعتباره برهاناً لا يُردُّ على ضرورات التَّغيير باتّجاه استرداد الأصول والعودة إليها أو مُلاقاتها.
من جهة أخرى، نلاحظ أنَّ ثمَّة ربطاً نخبويّاً يتَّخذ عادةً طابعاً قسريّاً بين العلمانيّة من جهة والـحداثة من جهة أخرى، بوصفها فلسفة ومنهاجاً للفكر والـحياة، إذ يَفترض مُنظِّرو الفكر العلمانيّ في معظمهم انقطاعَ الأمَّة عن ماضيها وعن إسلامها، وعَيشها على وهْمِ الاستمرار مع الـماضي. ومن هذه الزَّاوية، يُمكننا النَّظر إلى المُناقشات الـموسّعة التي دارت بين الإمام محمَّد عبده (ت. 1905) من جهة، وفرح أنطون (ت. 1922) من جهة أخرى؛ خصوصاً ما يتعلّق بمسألتَيْ: الدّين والعِلم، والطَّابع الـمدنيّ للسُّلطة في الإسلام، خلافاً لثيوقراطيّة السُّلطة في الديانة الـمسيحيّة، والتي تمحورت حول أربع نقاط رئيسة، هي: الـمُقارَنة بين سلطة الرُّؤساء في كلٍّ من الإسلام والـمسيحيّة، وتبيان القاعدة الـمتعلّقة بسلطان رجال الكنيسة على غيرهم، وتوضيح مبدأ الفصل بين السُّلطتَيْن: الدينيّة والسياسيّة في الديانة الـمسيحيّة، وقَلْب السُّلطة الدّينيّة باعتباره أصلاً خامساً من أصول الإسلام في فكر الإمام محمَّد عبده.
بين الأصالة والـمُعاصرة
كان النصف الأخير من القرن التّاسع عشر قد شهد مُجادَلةً حامية الوطيس بين جمال الدّين الأفغانيّ (ت. 1897) والفيلسوف الفرنسيّ إرنست رينان (ت. 1892)، حول ما وَرَدَ في محاضرة الأخير حول “الإسلام والعِلم”، والتي ألقاها في رحاب جامعة السوربون سنة 1883، وانتهى فيها إلى نكران أن يكون للعرب أو الـمُسلمين دَور في الـحضارة الإنسانيّة أو نصيب من التُّراث العلميّ من إبداعهم الـخاصّ، مُنكراً، في الوقت نفسه، قدرة العرب والـمُسلمين على النُّهوض من جديد. ثمّ دخل هانوتو (ت. 1944) على الـخطّ هو الآخر، فكتبَ مقالةً في الـموضوع ذاته تحدّث فيها عن تاريخ النّزاع بين الإسلام والـمسيحيّة، انتهى فيها إلى تأكيد تحقُّق الظَّفر للأخيرة، ما دَفَعَ الإمام محمَّد عبده للتصدّي لها بمقالاتٍ ثلاث جَمعت بين الأصالة والـمُعاصرة، وبيَّنت قوَّة اطّلاعه وسِعة عِلمه. وفي العام 1902، نَشَرَ فرح أنطون في مجلّته الـجامعة (1898 – 1910) سلسلة مقالات حول موقف ابن رشد من الدّين، جَمَعَها لاحقاً في كتابه: ابن رشد وفلسفته، الذي خَلُص فيه إلى القول: إنَّ الدّين الـمسيحي يُعتبر أوسع صدراً في احتمال مُجاوَرة العِلم والفلسفة، ومردّ ذلك إلى أنَّ الـمسيحيّة، على عكس الإسلام، قد نجحت في الفصل بين السُّلطتَيْن: الدّينيّة والـمدنيّة، بكلمة واحدة، تتجسَّد في قول الـمسيح عليه السَّلام: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للَّه للَّه”، بينما السُّلطة الـمدنيّة في الإسلام مقرونة بحُكم الشَّرع؛ لأنَّ الـحاكم العامّ هو حاكم وخليفة معاً. بناءً عليه، فإنَّ التَّسامح يكون في هذه الطَّريقة أصعب منه في الطَّريقة الـمسيحيّة.
وبحسب محمَّد الحدَّاد، فقد جاءت هذه الـمُجادلة لتُعيد فتحَ باب نِقاشٍ بدا واضحاً أنَّه قد حُسِم تماماً في العام 1883، عندما ألقى إرنست رينان محاضرته الشَّهيرة حول الإسلام والعِلم، التي أثارت أيضاً الكثير من الرُّدود، من أشهرها ردّ جمال الدّين الأفغانيّ على وجه الـخصوص. وبزعْمِ الـحدَّاد، فإنَّ مُجادَلةَ العام 1903 بين محمَّد عبده وفرح أنطون كانت بمثابة إعلان وفاة لتوجُّه الأفغاني الدَّاعي الأوروبيّين إلى ضرورة الاعتراف بإسهام المُسلمين في الحضارة الإنسانيّة في مقابل النَّهل من الحداثة، بخاصَّة أنَّ العشرين سنة الفاصلة بين التّاريخَيْن قد اتَّجهت في مسارٍ بَيِّن الاختلاف!
لكنْ بغضّ النَّظر عن الآليّة التي استشفَّ منها الـحدَّاد رسالة الأفغاني للرأي العامّ الأوروبيّ، وخصوصاً في ظلّ عدم الإحالة إلى نصٍّ منسوبٍ للأفغانيّ، فإنَّ الاكتفاء ببيان أنَّ السنين الفاصلة بين الـمُجادلتَيْن (1883 – 1903) قد قطعت الطَّريق أمام التَّوافق بين الاتّجاهَيْن، من دون تقديم أيّة براهين “تاريخيّة” على ذلك – فضلاً عن أنَّ الاستدلال باختفاء كتاب فرح أنطون: ابن رشد وفلسفتهمن حيّز التَّداول العامّ، ثمَّ التأكيد بأنَّ عدم طباعته في مقابل الطبعات الكثيرة لكتاب محمَّد عبده: الإسلام والنصرانيّة بين العِلم والـمدنيّة، إنَّما يُبرهِن على احتفاء الثقافة السَّائدة بما سمَّاه “محاولة محدودة القيمة من النَّاحية الفكريّة، لكنَّها مهمَّة من ناحية تعبيرها عن رغباتٍ أيديولوجيّة واجتماعيّة” – أمر بعيد كلَّ البعد من الـحقيقة العلميّة، ناهيك بأنَّه أدخل في باب الإيمان بنظريّة الـمؤامرة! السَّبب في ذلك يعود، في بساطة شديدة، إلى أنَّ تيّار الإصلاح والتَّجديد، الذي أرسى دعائمه كلٌّ من: جمال الدّين الأفغاني والأستاذ الإمام محمَّد عبده، قد نجح في أن يُشكّل قاعدة نخبويّة وجماهيريّة في آن واحد – على عكس التيّار الـمضادّ له تماماً – وأن يُكوّن من ثمَّ تيّاراً عامّاً له أتباعه حتَّى من ضمن ممثّلي التيّار اللّيبراليّ، في حين لم ينجح التيّار العلمانيّ في إحداث تراكُم على مستوى الأجيال اللّاحقة، أو التغلغل بأفكاره الـخاصَّة بين ممثّلي الاتّجاه الإصلاحيّ.
هكذا، أُثير موضوع علاقة الدّين بالدَّولة للمرَّة الأولى في مطلع القرن العشرين، وقد أثاره وقتذاك، من دون داعٍ ولا مسوِّغ، الـمفكّر اللّبنانيّ الـمُتمصّر فرح أنطون في مجلّة الـجامعة، مدفوعاً بدافعَيْن رئيسَيْن، ومُثيرَيْن، كلاهما لا علاقة له بالدَّاخل الـمصريّ، أو العثمانيّ. الدّافع الأوّل يتمثَّل في المُناقشات التي تجدَّدت وحمي وطيسُها في فرنسا في شأن ضرورة فصل الدّين عن الدَّولة، فصلاً كليّاً ونهائيّاً، وأفضتْ في الأخير إلى صدور قوانين عام 1905، التي تحسم مسألة الفصل الكليّ وتُضيف قدراً من العدوانيّة تجاه الدّين والـمتديّنين. ولأنَّ فرنسا كانت رمزاً للتقدُّم والـحداثة بالنّسبة إلى فرح أنطون، فقد ارتأى ضرورة تقليدها في عمليّة الفصل هذه، بذريعة أنَّنا بذلك نُزيل عائقاً مهمّاً من عوائق الوحدة الوطنيّة من جهة أولى، ونفتح الـمجال أمام اعتناق العلوم الـحديثة من جهة ثانية، ونمنع السُّلطة السّياسيّة من استغلال الدّين لفرض السَّيطرة والاستبداد على النَّاس من جهة ثالثة.
أمَّا الدافع الثاني، فيتمثَّل في استعراض كتاب إرنست رينان عن: ابن رشد والرشديّة اللّاتينيّة، بهدف تأكيد ضرورة الفصل أيضاً بين العقائد الكَنَسيّة من جهة، والعلوم البحت والتَّطبيقيّة من جهة أخرى. فالدّين – في ما يؤكّد الفيلسوف ابن رشد – “يقول بحقيقة مُوحاة، والفلسفة تقول بحقيقة بُرهانيّة. والـحقيقتان لا تتناقضان، ولكلٍّ مجالها الذي تَسْري فيه”. وينتهي أنطون إلى تأكيد ضرورة الفصل بين الدّين من جهة، والعِلم من جهة أخرى، تماماً كما هي الـحال بالنّسبة إلى الدّين والدولة.
التَّوفيقيّة كحاجةٍ تاريخيّة
وكما لاحظَ وجيه كوثراني، فإنَّ مُساجَلة عبده – أنطون لم تَحُل دون بناء حوارٍ دينيّ – سياسيّ، مؤسَّس على حركيّة الـمُجتمع، ويهدف إلى تحقيق التقدُّم ونَيْل الـحقوق، على نحو ما بدا واضحاً من موقف كلا الطرفَيْن: من قضيّة إضراب عمَّال لفّافي السَّجائر بين كانون الثاني/ يناير 1899 و21 شباط/ فبراير 1900. فضلاً عن أنَّ هذا التوجُّه الـحواريَّ لم يكُن بالضَّرورة بسبب الانتقائيّة – أو بالأحرى التوفيقيّة أو التأويليّة التي وقع فيها الكتّاب النَّهضويّون: الإصلاحيّون الـمُسلمون من جانب (محمَّد عبده)، والعلمانيّون الـمدنيّون من جانب آخر (فرح أنطون)؛ فهذه الانتقائيّة، أو التَّوفيقيّة القائمة على منهج التَّأويل، سواء صَدرت من الطرف الدينيّ – الإسلاميّ (الفقيه)، أو من الطرف الـمدنيّ – العلماني (الفيلسوف أو الباحث الاجتماعيّ)، كانت حينذاك تعبّر عن حاجةٍ تاريخيّة.
هكذا اعتقد أنطون أنَّ العقل، لا الدّين، هو الضّامن الـحقيقيّ لوحدةٍ حقيقيّة تَجمع بين جميع أفراد الـمُجتمع، مهما تنوَّعت طبقاتهم وتعدَّدت مُعتقداتهم. كما أكَّد أنَّ الـحوار يُعَدُّ بمثابة الشَّرط الوحيد لإنجاز مثل هذا الاتّحاد، بما يؤدّي إلى تجذير الفكر العلمانيّ في البنية الذهنيّة العربيّة، ومن ثمَّ إلى تطهيرها من أحكام الذّهنيّات الـمُناوئة الـمتمثّلة في التقليد. وقد أثار هذا الاتّجاه حفيظة صديقه رشيد رضا، صاحب مجلّة الـمنار، الذي رفضَ بدوره إخضاعَ الإسلام لأيِّ تنازُلٍ عن هَيمنتِه على الـحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، مُعتبراً ذلك من الـمسلَّمات التي لا يُمكن الـمساس بها، فكان أن حرَّض أستاذه الشّيخ محمَّد عبده على التصدّي لأطروحات فرح أنطون عبر الـمنار.
في الأخير، لا شكّ في أنَّ الإسلام يعيش اليوم انقطاعاً تاريخيّاً أحدثته حداثة النّظام العالـَميّ، ومن ثمَّ تكمن الـمشكلة عند العلمانيّين في رؤيتهم إلى الإسلام كأيديولوجيا فحسب، وتفريغه من مفهومِه الـميتافيزيقيّ الإيمانيّ، وتحويله إلى أيديولوجيّة سياسيّة يسهل نقْضُها؛ إذ إنَّها في هذا الشكل تفقد قيمتها التَّأسيسيّة الـمعرفيّة والاجتماعيّة، ولا يبقى منها إلَّا الـمغازي الاقتصاديّة والسّياسيّة، أو الأيديولوجيّة. وقد عبَّر عن ذلك عبد اللَّه الغذّامي، حين قال في سياق نقده أدونيس، “ومثلما كان أبو تمَّام حداثيّاً تجديديّاً في ظاهره، ورجعيّاً في حقيقته، فإنَّنا سنرى أنَّ أدونيس أيضاً رجعيُّ الـحقيقة، وإنْ بدا حداثيّاً وثوريّاً. سنرى أنَّه ظلَّ يُمثّل النسقَ الفحوليَّ ويُعيد إنتاجَه في شعره وفي مقولاته، بدءاً من الأنا الفحوليّة وما تتضمَّنه من تعالي الذَّات ومُطْلَقِيّتِها، إلى إلغاء الآخر والـمُختلِف، وتأكيد للرَّسْميّ الـحداثي، كبديلٍ للرَّسْميّ التَّقليديّ، وإحلال الأب الـحداثيّ محلَّ الأب التقليديّ. وكأنَّما الـحداثة غطاءٌ لنوعٍ من الانقلاب السُّلطويّ لهدف إحلال طاغية محلَّ طاغية، كما هو الـمفهوم الـمُحرَّف لمعنى الثورة”. علاوة على ذلك، فإنَّ ثمَّة فَهماً مغلوطاً وسطحيّاً لمصطلحَيْ: الدّين والـحداثة، حيث يُنظَر إليهما كما لو كانا مفهومَيْن مُصْمَتَيْن! على الرُّغم ممَّا يُقرّره إرفنج هاو (ت. 1993) – على سبيل الـمثال – أنَّ على الـحداثة أنْ تُكافح دائماً، ولكنْ من دون أن تنتصر تماماً، بل عليها أن تُكافح من أجل ألَّا تنتصر؛ إذ إنَّ انتصارها يعني أن تفقد سِمَة الـحداثة، وذلك عبر ترسيخ أسلوب أو نمط حياة ثابت تلتزم به وتسير عليه!
*كاتب وباحث من مصر
قم بكتابة اول تعليق