أفق – ترجمة: حسّونة المصباحي*
الحرب في أوكرانيا أوحت لمجلّة “فلسفة” في نسختها الفرنسيّة (العدد 158 – إبريل/ نيسان 2022) بتخيُّل حوار بين ثلاثة من فلاسفة ألمانيا الكبار: كانط وهيغل ونيتشه. وقد اختارت المجلّة أن يدور الحوار في مقهى مُعتم في مدينة “كونيغسبارغ” مسقط رأس كانط، والتي أقام فيها حتّى نهاية حياته، وفيها كَتَبَ أعماله الفلسفيّة العظيمة التي لا تزال تُثير جدلاً واسعاً وثريّاً إلى يومنا هذا.
في ما يلي نصّ الحوار:
– هيغل: مُستغرِقاً النَّظر في عُمق كأسه: لستُ أدري إن كان “الشراب” منتصحاً به حين يكون وعينا شقيّاً، وحين نجد أنفسَنا مُجبرين مرّةً أخرى على مواجهة ما هو سلبيّ. هل سمعتم ما قاله زيلينسكي؟ أمس ستّة عشر طفلاً لقوا حتفهم. أطفال أبرياء.. مع ذلك يتواصل القصف الجوّي على كامل المُدن الأوكرانيّة. والسكّان الذين لجأوا إلى محطّات الميترو تحت الأرض، يعانون من نقصٍ فادح في الموادّ الغذائيّة. وأمّا الدبّابات الروسيّة، فتتقدّم وكأنّها تجسيدٌ معدنيٌّ للكراهيّة على السهل الجليدي.
– كانط: أنتَ تستعمل لغةً رومانسيّة، إلّا أنّه لا يمكنني بدوري أن أمنع نفسي من التأثُّر. لكأنّ التاريخ بصدد العودة إلى الوراء. لنترك جانباً الانفعالات والعواطف، ولنحاول أن ننظر إلى الأشياء بموضوعيّة: القرن الحادي والعشرون بدأ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأعمال العنف الوحشيّة لا تزال تُهدِّد العالَم، إلّا أنّها اتّخذتْ صورةَ الإرهاب أو الحرب الأهليّة. منذ سنة وأنا أنظر إلى الحرب غير المعهودة كما لو أنّها امتصاصٌ لعنف الحرب الكلاسيكيّة؛ بل إنّه حَدَثَ لي أن فكّرت بأنّ النِّزاعات القديمة بين الدول اختفت نهائيّاً، بحيث لن يكون هناك غير مجموعات من الأفراد مُنظَّمين إلى حدٍّ ما؛ وهؤلاء يُهدّدون السِّلم العالَمي من خلال أعمالٍ إرهابيّة للنَيل من المدنيّين، وإليهم ينظر الرأي العامّ العالَمي بغضب. وفي النهاية يكون مصيرهم الفشل والخَيبة. لكنّ الأمر مُختلف الآن؛ فنحن نرى أرتالاً من الدبّابات وجنوداً ببزّاتٍ نظاميّة، ونعيش عمليّات قصفٍ مُتواصِلة. وأمام هذه المَشاهد المُرعبة، ينتصب شبّانٌ لا يفهمون ما يحدث، ويقوم القادة العسكريّون بإرسالهم إلى ساحات الموت. وأنا كنتُ أعتقد أنّ صفحة القرن العشرين قد طُويت، إلّا أنّها فُتحت من جديد.
– نيتشه: أيّها العجوز… أنت تعتقد أنّك مُعْتدل وعقلاني في تحليلاتك. وأنتَ تتصوَّر أنَّك تُقيم على أرضِ جزيرة المعرفة المضمونة، ومنذ البداية أنت تُهَدْهِد نفسكَ بالأوهام، وهُم لم يبلْوروا مُكتشِفاً للأصنام أفضل منكَ، منذ المُخادع يهوذا. أنتَ تتصوّر أنّ التاريخ يمضي نحو السلام، نحو سلامٍ أبديّ؛ إلّا أنّ سلامكَ هذا هو في الحقيقة سلام المقابر.. ألا ترى ذلك؟ عُدْ إلى اليونانيّة القديمة، واعثرْ على الأصوات التي ارتفعت قبل ولادة الفلسفة السقراطيّة (نسبةً إلى سقراط) وسوف تستمع إلى الحِكمة المُرّة لهيراقليطس: النِّزاع هو أب الأشياء كلّها. وهذا أمر قائم بذاته منذ فجر البشريّة وحتّى يومنا هذا. إنّ التاريخ هو العجوز بسلسلة فوضويّة من النِّزاعات والاختلالات. وهو لا يقود إلى تحقيق التقدُّم، بل إلى المساء الكبير ليَوم الحساب. وهو لا يذهب في أيّ اتّجاه، ونحن منذورون جميعاً لظلام اللّيل.
– هيغل: لكن ماذا شربت؟
– نيتشه: لم أشرب غير الماء؛ لكنّ الفكر يُحلّق فوق الماء.
– كانط: من الأفضل لك أن تتناول شراباً يا فريدريك. فصاحتُكَ ومُراعاتُكَ للجريمة، لا تُثير إلّا إعجاب واندهاش المُراهقين وأصحاب الذكاء الذي لم ينضج بعد كفاية. وباستشهادكَ بمقولة هيراقليطس، فإنَّكَ تَمنع فَهْمَ التاريخ وحتّى الإحساس به. أنظرْ إلى العصور الحديثة عوضَ أن تستنجدَ بالحضارة الإغريقيّة – اللّاتينيّة التي هي عالَمكَ الخلفي الخاصّ بكَ وحدك. وهناك عنصر إيجابي يَتَنَاقضُ مع حكمتِكَ المُصطنَعة: يستحيل أن يتحارب نظامان سياسيّان بحكومتَيْن مُنتَخبتَيْن شرعيّاً.
– نيتشه: (مُستغرِقاً إلى حين وهو يعبث بشاربه الكثّ): انتظر.. انتظر.. سوف نعثر لكَ على ما يُبطل أفكاركَ.
– هيغل: (معقّباً بعد دقيقتَيْن أو ثلاث من الصمت): عندي واحد.. السنوات التي قضيتها في إلقاء محاضرات حول التاريخ الكَوني، يُمكن أن تكون صالحة لشيءٍ ما. وماذا عن الحرب بين فرنسا وألمانيا في العام 1914؟
– كانط: افهمكَ، وهذا يُذكِّرني بـ “مبادئ فلسفة القانون“. وأنتَ لم تكُن أبداً صارماً بخصوص مسألة الديمقراطيّة. وفي الحقيقة أنتَ مثل أفلاطون، الاستبداد يروق لك. لكنّ ألمانيا في العام 1914 كانت نظاماً مَلكيّاً برلمانيّاَ يتميّز بالتسلّط. وذاك كان النظام بحسب بسمارك. ومعنى هذا أنّه حتّى، ولو كان البرلمان مُنتخباً، فإنّ ذلك لا ينتقص من فكرتي، ولا يُبطلها. وأنتَ يا فريدريك، بما أنّكَ تستشهد بكتابي: “من أجل سلام دائم“، اسمح لي بأن أذكّركَ بأنّني وضعتُ فيه معياراً معيّناً: السلام لا يتحقّق إلّا بين دول يكون دستورها المدني جمهوريّاً، أي أن يكون هناك فصلٌ بين السلطتَيْن التشريعيّة والتنفيذيّة. بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ أن تكون حريّة التعبير في الفضاء العامّ مضمونة. بمثل هذه المعايير أعيدوا قراءة التاريخ الكوني أنتم يا مَن لا تؤمنون بالتقدُّم. وليس هناك ما يتناقض مع كلامي؛ وأكثر من هذا كلّه: الديمقراطيّات أشدّ بطئاً من الطُّغاة في الدخول إلى الحرب بسبب التعدّدية، والجدل الذي هو ضروري قبل اللّجوء إلى العنف. ومعنى هذا أنّ الديمقراطيّات لا تتّخذ القرارات إلّا متأخِّراً. لكن لم يحدث أن خسرت ديمقراطيّةٌ ما الحربَ ضدّ نظامٍ أوتوقراطي.. لم يحدث ذلك أبداً.
– نيتشه: (متحدّثاً إلى نفسه): مثلما تقول لو (يقصد صديقته لو أندرياس سالومي).. لا بدّ من مرّة أولى.
– كانط: أنتم تعتقدون أنّ الطاغية قويّ، ولكنّه ضعيف. وعندما يتمّ اتّخاذ قرار الحرب من قِبَلِ طاغية، لا يكون مَعنيّاً بالنتائج المباشرة للحرب، فإنّ هذه الحرب تُعلَن من دون الأخذ بأيّ اعتبار لرأي المُواطنين، ومن دون أيّ اعتبار أيضاً لما يسبّبه لهم هذا الأمر من آلامٍ موضوعيّة. ثمّ يتوجّب عليّ أن أذكّركم بأنّ الدستور الروسي تمَّ تعديله سنة 2020 كي يسمح لبوتين بالترشُّح لمَنصب الرئاسة سنة 2024، ثمّ في سنة 2030. وبذلك يضمن لنفسه سلطةً تمتدّ إلى 36 سنة، قد يموت خلالها المُعارضون له، أو هُم يُسجنون، مثلما هو حال “نافالني”، وتظلّ الصحافة خاضعة للمُراقَبة. كما أنّ البند القانوني الصادر سنة 2007 ضدّ التطرُّف السياسي سيَسمح لبوتين بمُعاقَبة كلّ مَن ينتقد سياسة الحكومة. ولا تنسوا أيضاً أنّ بوتين كوَّنَ حَرَساً خاصّاً بخمسة آلاف عنصر لحمايته. وفي الحقيقة كلّ هذه الإجراءات تدلّ على الضعف وليس على القوّة. وفي بلادٍ يُمكن أن نلجأ فيها إلى العقل، يكون منطق الطاغية بلا أيّ سندٍ فعليّ. وهو لا يستفيد من أنوار الآخرين، ومن معارفهم، في حين أنّ الجدل الحقيقي لا يكون ثريّاً إلّا بتبادُل الآراء المُختلفة. وإن لم يَحدث ذلك، فإنّه يُصاب بالجمود واليباس، وللأسف الشديد يكون الثمن في النهاية الدمع والدمّ المُراق في الطريق المؤدّية إلى الكارثة النهائيّة.
– نيتشه: أنتَ تُضْحكني بثقتِكَ في فضائل الجدل مثلما هو الحال مع عاداتك اليوميّة المُتمثّلة في تناوُل الغداء مع مَن تسمّيهم “أصحاب الأفكار النيّرة”. ويكون عددهم بحسب ما أعلم بين أربعة وتسعة.. وأنتَ تنظر إلى العالَم كما لو أنّه فضاء للجدل بين عقولٍ تبتغي تحسين الوضع وتسمح للإنسانيّة بالتقدُّم اعتماداً على العِلم والفلسفة. لكنْ أنظر إلى ما حدثَ لحريّة التعبير، وكيف أصبحَ فضاؤك العامّ الذي تُفاخر به.. كلّ واحد يسمح الآن لنفسه بأن يلعب دَور الإنسان المثقّف، وكلّ واحد يُدلي برأيه في مختلف القضايا عبر وسائل الاتّصال الاجتماعي، وفي الصحافة، وفي الإذاعات، وفي البرامج التلفزيونيّة. وها أنّنا أمام جموعٍ تُثرثر طوال الوقت وتَنشر سمومَها وأفكارها الخاطئة على نطاقٍ واسع.. أنظر إلى الجموع الديمقراطيّة منذ بداية الحرب، ماذا تفعل هذه الجموع؟ إنّها تُطلِق الزغاريد العاطفيّة مُردِّدة: آه.. كم هُم شجعان وجسورون أولئك الأوكرانيّون… وكم هُم رائعون الشيوخ الذين يقفون أمام الدبّابات، والطَّلبة الذين يعدّون قنابل المولوتوف. وأمّا زيلينسكي فيتحدّث بلغةِ القلب… والقنبلة، سيّدتي القنبلة ربّما تسقط على باريس… وربّما في مكانٍ قريب منها، إن لم يُعدَّل إطلاقُ القنبلة بطريقةٍ مُحكمة. ألا تعتقدون أنّ القيصر بوتين قادرٌ على إطلاق القنبلة الذريّة لضربِ أيّ مكان في أوروبا؟ كلّ هذه الأفكار البائسة والمُضحكة تأتي من الجموع الديمقراطيّة. وأنا أقول إنّ قَرناً آخر من الفايسبوك سيؤدّي حتماً إلى تعفُّن اللّغة. أمّا الصورة فسوف تفقد قيمتها وتأثيرها….. هل هذا هو فضاؤك العامّ؟ كليشيهات بائخة وشعارات فارغة وثرثرة موجِعة للرأس … وفي الانتظار تواصِل الدبّابات تقدّمَها.
– هيغل: أنتَ بصدد السقوط في العدوانيّة.
– نيتشه: باه… أنا أوضّح لكم الأشياء بكلّ بساطة، وكما هي: يتوجّب علينا أن نمتنع عن شكلٍ من أشكال الضعف العاطفي وأن نعترف بأنّ معنى أن نعيش هو أن ننهب، وأن نجرح، وأن نُعنِّفَ الضعيفَ والغريب، وأن نقمعهما، وأن نفرض عليهما القواعد بكلّ قوّة، وأن نضمّهما إلينا أو على الأقلّ نستغلّهما.
– هيغل: أُراهِن على أنّكَ كنتَ تتعذّب كثيراً في المدرسة. لذلك أنتَ تمتلك أفكاراً توحي بالعذاب والألم، وبالرغبة في الانتقام. أنتَ ظللتَ محبوساً في مكانٍ ما، وفي مرحلة مختلفة عن تطوّر الفكر، لأنّ زملاءك في المدرسة كانوا يضربونك على رأسك كلّ يوم… ولهذا السبب أنتَ تعاني من صداعٍ دائم.
– نيتشه: لا تتعامل معي بهذه الطريقة التي تُحيل إلى شخصي. أنا أتحدّث معكَ حول الفلسفة وحول التاريخ. الشعوب الديمقراطيّة في الغرب نسيت الحرب. وهي الآن عاجزة عن خَوضها. ونحن لا نرى للحرب أثراً في حياة هذه الشعوب. وأنا أزعم أنّ الروس والشعوب السلافيّة لا تزال تحتفظ بالهويّة الأرستقراطيّة. وفي الحقيقة حين يتعلّق الأمر بهذه الشعوب الارستقراطيّة، فإنّه لن يكون من الصعب علينا تمييز مَن هو الوحش الذي يطوف هنا وهناك بحثاً عن الذبيحة، وعن المجزرة الدمويّة. إنّ التوحُّش الحيواني الكامن في ما هو إنساني يحتاج بين وقتٍ وآخر إلى نَوعٍ من الاسترخاء، وإلى مساحةٍ ما. وعلى الوحش أن يَظهر من جديد ليعود إلى عمله الفظّ. الارستقراطيّون، سواء أكانوا روماناً أم عَرباً أم جرماناً أم إغريقاً أم من الفيكينغ.. هؤلاء هُم المحاربون الحقيقيّون.. هل تعلمون السبب الذي يمنعنا من خَوض الحرب على الأرض في أوكرانيا؟ لأنّ الروسَ والأوكرانيّين، هُم وحدهم القادرون على ذلك، لأنّ الحرب في دَمهم وفي تقاليدهم. وهُم لم ينسوا الانفعالات الأرستقراطيّة. أمّا نحن فأقزامٌ ديمقراطيّون نخشى ارتفاع ثمن الغاز وسعر الطبق الذي سنعدّه للغداء أو للعشاء.
– هيغل: أيّها الصديقان العزيزان، أحببتُ الإصغاءَ إليكما وأنتما تستعرضان أفكاركما ومُبرّراتكما. دعوني الآن أتجاوز معارضتكما، وأشرح ما توصَّلتُ أنا إليه. ويا فريدريك أنا مُتّفق معكَ عندما تقول إنّ النِّزاع هو أب الأشياء كلّها؛ إلّا أنّني مُتّفق أيضاً مع إيمانويل حينما يؤكّد بأنّ التاريخ يسير في طريقٍ عقلاني. وأنا أعتقد أنّ الموقفَيْن ليسا مُتناقضَيْن في الواقع. ولِمَ لا نفترض أنّ النِّزاع هو المحرِّك للتاريخ كي يتقدّم وكي يتحقَّق مخطّط العقل؟ وإذا ما كان الأمر على هذه الصورة، فلِمَ لا يكون المعنى الحقيقي للتاريخ عبارة عن سلسلة من النّزاعات التي تولّدُ الحصيلة النهائيّة؟ إنّ حُلم بوتين ورهانه هو أنّ تحالفه مع صين كزي جينغبينغ يسمح له بأن يُدير سياسة مُتقلِّبة. وعلى أيّة حال هُما، أي الرئيس الروسي والرئيس الصيني، كانا قد أَعلنا يوم الرّابع من شباط/ فبراير في الخطاب المُشترَك أنّهما يرغبان في وضْعِ حدٍّ للهَيْمَنة الغربيّة على العالَم المتمثّلة في كلٍّ من الدول الأوروبيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة. والآن هُما اللّذان يتحكّمان في اللّعبة بمجملها، وهذا يتوافق مع مخطّط (أوروبا آسيويّة)EURASISME .
وخطوط هذا المخطّط تبدو الآن واضحة للعيان: الروس يهجمون أوّلاً، ثمّ يقوم الصينيّون باستعادة تايوان. وبعدها يشرعان معاً في إنجاز اقتصادٍ قويّ يؤدّي إلى إضعاف مصالح أوروبا وإنهاكها بمرور الزمن.
– كانط: هل تعتقد أنّ هذا سيناريو مُمكن التحقيق؟ يبدو لي أنّها أقمار قديمة تعود إلى عصر بيار الكبير… أليس كذلك؟
– هيغل: لا.. في الحقيقة أنا لا أؤمن بذلك، لأنّ بوتين مُخطئ في الاستنتاج، إذ إنّ روسيا لديها إنتاج الخامّ الإجمالي نفسه الذي لدى إسبانيا. إذن، فالتحالُف الاقتصادي والمالي مع الصين من هذه الناحية، ليس فيه أيّة مصلحة. والمصلحة الوحيدة للصين هي أن تَقْضم شيئاً من سيبيريا، وأن تستغلّ ثرواتها، إلّا أنّها تفعل ذلك منذ فترة عبر الشركات الخفيّة. لذا يُمكن القول إنّ فلاديفوستوك أصبحت مدينة صينيّة. مقابل ذلك، ليس بإمكان روسيا استيعاب الصادرات الصينيّة. ومعنى هذا أنّ الصين لا تقدر على الخروج من العَوْلَمة لتكوين حلفٍ مع روسيا، لأنّ عمليّة كهذه ستكون بمثابة الكارثة بالنسبة إليها. لذلك نلاحظ أنّ الصين تفضّل الانتظار والتروّي؛ وهي تُساند غزو أوكرانيا من دون أن تكون موافقة عليه. وهي ترى أنّ هذه الحرب هي في الحقيقة انشقاق داخل معسكر العدوّ. وهذا الغزو لمصلحتها، لأنّه يُسهِم في إضعاف الغرب. كما أنّ روسيا ستَخرج منه مُنهَكة. وعندئذ ستستغلّ الصين هذا الوضع كي تفرض على روسيا شروطها في المفاوضات. وبذلك يكون بوتين كزي جينبينغ الذي يُسهم في إضعاف القدرة الغربيّة. وأنتما تعرفان نصيحة سون تزو، مُنظِّر الحرب الشهير: “الذي يدفع العدو إلى أن يُغيِّر مواقعه مُوهماً إيّاه أنّ له مصلحة في ذلك، يكون متأكّداً من انتصاره عليه”. وكنتُ قد كتبتُ ذات مرّة بأنّ الفكر نهضَ في الشرق، لكنّه تحوَّل باتّجاه الغرب. ولعلّنا نعيش الآن رحلة عودته.
– كانط: عرضُكَ جيّد للغاية إلّا أنّه نَسَقيّ. أمّا أنا فما زلتُ أعتقد أنّ هذه الحرب ليست سوى لحظة، ومرحلة من العنف ومن المجازر الفظيعة. وهي مجرّد مُعْتَرَضة. وهي، أي هذه الحرب، دَورة من دَورات العنف التي انفتحت. لكنّها ستنتهي. وعلينا عندئذ أن نغلق الهلالَيْن، وأن ندفن الأموات، وأن نُعالِج الجرحى، وأن نُعيد بناء أوكرانيا. وسوف تظلّ هذه الحلقات الرّاهنة مجرّد ذكرى للبربريّة، وحدثاً شاذّاً في مَسار التاريخ.
– نيتشه: أمّا أنا فأُحدس أنّ هذا النِّزاع سوف يطول، وسوف يتعفّن، وأنّ الروس لن يكون بإمكانهم السيطرة على أوكرانيا. وستكون هناك جيوبٌ للمُقاوَمة، ولمُواجَهات، ولتَبِعات في فنلندا وفي رومانيا وفي بلدانٍ أخرى. وهذا النِّزاع لن يُفضي إلى أيّ نتيجة، ولا إلى أيّ سلام أعلى، ولا إلى أيّ خلاصٍ للبشريّة، لأنّه ليس شرّاً من أجل الخَير، ولا يُمكن أن نستخرج منه أيّة موعظة أخلاقيّة.
* كاتب وقاصّ من تونس
قم بكتابة اول تعليق