د . جميلة فعرس
كثيرة هي الأحداث والوقائع التاريخية التي وقف فيها رجال السياسية على منابر خطابية قدموا فيها من الوعود والأفكار ورسموا من الصور الوردية ما جعل الجماهير تحملهم على الاكتاف، وقليل هم من احترموا ذواتهم وحققوا ما وعدوا به، وكثير هم رجال الساسة ممن نقضوا العهد، وكثيرا منهم من حاول تحقيق انتصاراته على خيبات الآخر، سواء كانت هذه الخيبات على أرض الواقع أو في مخيلة من ابتدعها على شكل تهم للآخر بالانفصال والمؤامرة والفشل في التدبير، وتهم أخرى يظن بها أنه سيجد موضع قدم له.
هي السياسة إذن وخطاباتها وممارستها داخل مشهد سياسي في كثير من الأحيان تكون فيه الذات الفردية أسبق على الذات الجماعية، وأقصد الوطن وليس الذات الايديولوجية، هذه الممارسة التي تفرز جدلية في صور متعددة توصف في كل وقت بصفة معينة.
وهي جدلية قائمة على مر الزمن، جدلية الأخلاق والسياسية، التي تأخذ صورا متعددة، منها احترام الذات واحترام الآخر، ومنها التعايش مع الآخر أو كيف نصنع من الرأي الآخر إضافة مميزة لما نريد القيام به، ومنها الخلاف والاختلاف، ومنها احترام وجود الآخر أو اقصاؤه، ومنها حتى المصلحة العامة والخاصة، ومنها حب الذات ونكرانها.
فالسياسي الذي من المفترض أن يملك حساً من المسؤولية للبحث في إطار معين وآلية تطبيقه كفاعل سياسي مسؤول، وإمكانية ارتقاء الأعمال السياسة إلى المعايير والقيم الأخلاقية، يجد نفسه في كثير من الأحيان خارج نطاق هذه القيم بتجسيده لإحدى الصور المنبثقة عن الجدلية السابقة، ويلغي نظرية “الفعل التواصلي” عند هابرماس حيث تتقاطع داخله قيم إنسانية عدة من مجالات عديدة، كقيمة الحقيقة وقيمة الشرعية وقيمة الصدق؛ فالتواصل بهذا المعنى قيمة القيم، ولا يقصد طبعا بالفعل التواصلي استغلال القنوات التواصلية من أجل إظهار الأنا العليا أو هندسة التهم لتحسين الصورة أو ربط مسائل تدبيرية بما شاء الله أو إدراج المكون المشترك في الحديث وامتلاكه وإقصاء الآخر منه.
إن المشهد السياسي في بلادنا الذي انتقل من المرحلة الجنينية بشق الأنفس وبدماء ومخاض عسير دفع الكثير من أبناء هذا الوطن ثمنه، انتقل إلى مرحلة المراهقة السياسية. وإن لم يصح التعبير، فمن وجهة نظري فإنه وصف على الأقل فيه من الصراحة الكثير؛ فخرجات وشطحات ونزوات البعض تثبت لا محالة أننا مازلنا في مرحلة المراهقة السياسية، ولم نصل بعد إلى مرحلة الرشد السياسي حيث يكون السياسي مسؤول عن أفعاله مسؤولية سياسية وحتى قانونية.
فمازال حس المراهقة عند الكثير من المسؤولين يتضح كلما أتى وقت المحاسبة بتحميل الغير، وإن كان كاتب وزارة يشرف على تسيرها، المسؤولية الكاملة، ومازال المسؤول السياسي يخاف تأديب الأب ويستغل عطف الأم، ومازال المسؤول السياسي يحيك المؤامرات على صديقه ويلعب بما لا يصح اللعب به، ومازال المسؤول السياسي يسمع العتاب من مواطن أوصله الزمن وقسوته إلى النضج حتى إنه ينظر بعين الشفقة إليه ويخاطبه “بيك اولدي” أو “معندي بو الوقت”.
إن ما نعيشه ببلادنا يحتم إعادة النظر في سلوكيات رجال الساسة ونسائها والخروج من مرحلة المراهقة السياسية؛ فنحن لسنا بأطفال نلاعب بعضنا، نحن دفعتنا إرادتنا إلى السير على مسار يستوجب وضع اليد في اليد، ويستوجب معرفة قيمة الفعل والمحاسبة عليه، ويستوجب من محامينا شرح العقوبات وإيجاد الحل وليس كيل التهم، ويستوجب من طبيبنا علاج الجسد وليس استئصال طرف منه، ويستوجب من كاتبنا تحرير قلمه وليس تأجيره؛ فنحن لا نرفع شعار الانتقال الديمقراطي، بل نرفع شعار الرشد السياسي.
فقد هرمنا، على حد قول التونسي، من أجل أن نرى مسؤولا سياسيا له من الجرأة ما يعترف بأخطائه ويتحمل مسؤوليته، وأن يستحي من الانتقال بين الوزرات لمدة تفوق 12 سنة؛ فهل نضيف له ست سنوات أخرى لربما يصل مرحلة الرشد السياسي؟
قم بكتابة اول تعليق