أفق – أحمد فرحات*
هذه هي الحلقة 13، وليست الأخيرة، من حوارٍ بانوراميّ كنتُ قد أجريته شخصيّاً مع كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986). كان ذلك في باريس في العام 1978 وتحديداً في منزل الصديقة ليونور غونزاليس، الناشطة الثقافيّة الفرنسيّة من أصلٍ أرجنتينيّ، والتي إليها يعود الفضل في وصلي ببورخيس، وجعْله يمنحني أكثر من أربع ساعات من وقته الثمين، كان خلالها مُتجاوباً بحماسة مع جدل الأسئلة والأجوبة والمُناقشات المتولّدة، شجَّعه على ذلك أيضاً أنّني كنتُ بالنسبة إليه “الشاب العربيّ الأكثر قراءة واستيعاباً لأعماله الإبداعيّة ولبؤرة شخصه المُتمحورة فيها”، حسبما أخبرتني بذلك فيما بعد الصديقة غونزاليس. وهذا الأمر، على الأرجح، هو الذي فَتَحَ لي بابَ الصداقة الواثقة معه، والالتقاء به مراراً فيما بعد، تخلَّلتها لقاءاتٌ حواريّة إضافيّة مطوّلة معه، إنْ في باريس أو في جنيف، المدينة الأحبّ إلى قلبه، والتي مات ودُفن في “مقبرة الملوك” فيها سنة 1986.
دار هذا الجانب من اللّقاء مع بورخيس حول إبداعه وإبداع الجيل الأسبق لجيله من شعراء أميركا اللّاتينيّة وأدبائها، بخاصّة منهم الشاعر النيكاراغوي الكبير روبن داريو (1867 – 1916)، أبو الحداثة الأدبيّة في العالَم النّاطق بالإسبانيّة، فأجاب في البدء عن سؤالي المتعلّق بالمؤثّرات والعوامل التي حَكمتْ بدايات توجّهاته الأدبيّة وتوجّهات جيله ومَن سبقه من أجيالٍ أدبيّة وشعريّة أميركيّة لاتينيّة بشكلٍ عامّ قائلاً:
تأثَّر جيلي، ومَن سبقنا من أجيالٍ أدبيّة أميركيّة لاتينيّة وإسبانيّة، بالأدب الفرنسي الحديث الوافد إلى جنوب قارّتنا ووسطها، مُمَثَّلاً بأصواتِ فيكتور هوغو، وشارل بودلير، وبول فيرلين، وآرثر رامبو، وستيفان مالارميه، وألبرت سامين وغيرهم.. وغيرهم. وكان الذي لا يعرف رموز الأدب الفرنسي واللّغة الفرنسيّة نفسها في دول كالأرجنتين وتشيلي وكولومبيا وفنزويلّا والأوروغواي والمكسيك ونيكاراغوا والسلفادور… إلخ، لا يُعتبر مثقّفاً طليعيّاً ولا مُبدعاً حديثاً يتدفّق بالأسئلة الجديدة في خطابه الشعريّ أو السرديّ عموماً.
نعم، كانت أصوات الشعراء الفرنسيّين ممَّن ذكرتُ أسماءهم، وغيرهم أيضاً، الأكثر حضوراً ونفاذاً في عقول وقلوب وفضاءات تجارب شعراء جيلنا الأسبق من أمثال: روبن داريو في نيكاراغوا، وفرنسيسكو غافيديا في السلفادور، وإدواردو دي لابارا في تشيلي، وخوسّيه ماتي في كوبا، وغييرمو بريتو في المكسيك. وفي إطار هذا المناخ قال خوان باليرا (1824 – 1905) أحد كبار النقّاد الإسبان، إنّ الشاعر روبن داريو “غارق حتّى الجمام في النمط الأدبيّ الفرنسيّ الجديد، شعراً ونثراً”. وأردف “هو صاحب عقليّة فرنسيّة بحتة، ولولا لسانه الإسباني وسياق لغته الإسبانيّة لَظننْته واحداً من كِبار شعراء فرنسا بعَينها”.
- ولماذا لم يتسرّب شيء من الإبداع الحديث في إسبانيا إلى بلادكم، أو ما كان يسمّى بمُستعمرات الإمبراطوريّة الإسبانيّة القديمة، وخصوصاّ على المستوى الشعريّ؟ وقبل أن أفصّل أكثر في شرح سؤالي هذا، أجابني بورخيس:
كانت إسبانيا متخلّفة أدبيّاً ونقديّاً عن جوارها الأوروبي الفرنسي حينها، أي في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر. كانت مُستغرِقة في التقليد ومُتقاعِسة عن إحداثِ ثورة شعريّة حديثة كتلك التي أَحدثها في فرنسا كلٌّ من هوغو وبودلير ورامبو وفيرلين، ومن بعدهم على نحو أكثر خصوصيّة وتجديداً: ستيفان مالارميه، الشاعر الانقلابي الذي استطاع أن يتجرّأ على فيكتور هوغو ويتجاوزه إبداعيّاً، بعدما كان مفتوناً به ومُنبثقاً من رَحَمِ تجربته الرياديّة.
زد إلى ذلك، أنّ إسبانيا كانت مكروهة في البيئات المجتمعيّة الأميركيّة اللّاتينيّة بسبب تغوّلها السياسي “الإمبريالي” في بلدان قارّتنا التي استقلَّت عنها سياسيّاً فيما بعد، وليس ثقافيّاً ولغويّاً بالطبع. نعم، كانت النُّخب الأميركيّة اللّاتينيّة، من إبداعيّة وفكريّة وسياسيّة، مُعارِضة بشدّة للاجتياح الإسباني للبلاد، وما أحدثه من مَجازر دمويّة للسكّان الأصليّين، الأمر الذي جَعَلَنا نحن أهل أميركا اللّاتينيّة نَصِف الإسبان لاحقاً بأحطّ الألفاظ وأقْذعها، وفي مقدّمة هذه الألفاظ الشنيعة: “غودو وغاييغو” (لفظ بالعاميّة الإسبانيّة يعني التحقير والازدراء).
- ولكنْ، سيّد بورخيس، إنّ “الأب الروحيّ للشعر الإسبانيّ الحديث” الشاعر النيكاراغوي روبن داريو، إلى جانب تأثُّره العميق بالشعر الفرنسيّ ورموزه ممَّن ذَكرنا أسماءهم قبل قليل، كان أيضاً مُتأثِّراً، وعلى السويّة نفسها، بالشعراء الإسبان الرموز في زمنه، من طراز: رامون دي كامبو آمور، وخوسّيه ثورييا، ودييغو دي لامنتا، وبينتورا دي لابيجا، وباولو إدواردو منديز، وبالتأكيد حصل هذا التأثُّر من طرفه قبل انخطافه بالشعراء الفرنسيّين الكبار بحسب المعلومات التي في حوزتي.. لا أدري.. ماذا تقول أنت؟
كلامكَ يؤكّد كلامي ولا يَتناقض معه؛ فروبن داريو الشاعر الذي تأثَّرنا به نحن جميعاً كأجيال شعريّة وسرديّة لاحقة له في أميركا اللّاتينيّة وإسبانيا، لم يبقَ حبيسَ حدودِ تأثُّرِه بفرسان الدائرة الشعريّة الإسبانيّة المُتميّزين في عصره، بل كان قد استأنف انفتاحه وتطوُّرَ تجربته الشعريّة بانفتاحه على التجارب الشعريّة الرمزيّة في فرنسا للاستفادة منها، وتطعيم أسئلته بأسئلتها، ما جعلَ صوته الشعري يصير أكثر غنىً وتعبيراً عن النزعات المتناقضة في داخله، وفي عصره على السواء، فرَسَمَ إذّذاك قصيدته على منوال رؤيته الفنيّة والنفسانيّة المُتبدّلة. كما وَجَدَ نفسَه يميل إلى التجريب المفتوح بهدف استيعاب كلّ تطوّر يطرأ على الحياة نفسها، مُندفعاً بمسؤوليّة الشعر كفنٍّ مُستقبليٍّ للتعبير عن خلاصات الحقيقة الإنسانيّة التي لا تعرف الاستقرار.
وَحْشُ الشعر
- هل أملكُ أن تُحدّثَني أكثر عن الشاعر روبن داريو، وخصوصاً لجهة كونه عرّاب الحداثة الشعريّة والأدبيّة الإسبانيّة، وكيف كان وجه تأثُّركَ أنتَ به؟ وبالمناسبة أعلمكَ بأنّني قمتُ بترجمة قصائد له من الإنكليزيّة إلى العربيّة، حصلت على نصوصها من الصديقة ليونور غونزاليس.
هنا قاطعني بورخيس مُتسائلاً، وكيف وجدتَ أنتَ صورة روبن داريو الشعريّة من خلال القصائد التي نَقلْتَها له إلى العربيّة؟ أريدكَ أنت أن تحدّثني عنه وعن الانطباعات الشعريّة التي زَرَعَها فيك، فماذا تقول أيّها الصديق العربيّ إذاً في روبن داريو؟
حسناً سيّدي، وجدته شاعراً يرسم قصيدته بعفويّة مُشرقة، ويحرص دائماً على صقْلِ أدواتها التعبيريّة كي تأتي مُنسجمةً مع الإحساس الدفين والعالي الذي ينطوي عليه. كما أنّه ينتقي موضوعه بدقّة وغرابة مُتناهية ويظلّ يحفر فيه حتّى كلّ الأبعاد. ووجدته أيضاً شاعراً ينهش المعنى نهْشاً ويريد أن يكون باستمرار سبّاقاً فيه ويَقِظاً بغموضه الشفّاف حتّى يرضي وحشَ الشعر القابع فيه، ويجعله ذا رؤيةٍ جاذبة ومُنفتحة على مُختلف المستويات القرائيّة التي تتناوله. إنّه شاعر يحرص على استقطاب الذين ينفرون من الشعر، ويضيقون به أكثر بكثير من الذين يحبّون الشعر ويُقبلون عليه.
كما وجدتُ الشاعر روبن داريو يحرص كلّ الحرص على أن تظلّ القصيدة لديه بؤرة لاكتشاف عالَمٍ جديد يتنزّل مكان العالَم الذي يطوينا ونطويه. إسمعه يقول: “أيّتها القصيدة/ أنتِ العالَم الذي ينبغي أن يحلّ محلّ عالَمنا هذا/ أنتِ وحدكِ المؤهَّلة لكشْفِ أسراره/ وأسرارنا معه أيضاً/.. أسرارنا التي عجزْنا عن كشْفها/ وسنظلّ عاجزين إلى ما لا نهاية/ أيّتها القصيدة/ ما عدنا نطيق هذا الاستغلاق فينا/ ومن حوالينا/ وفي كلّ شيء يقترب منّا/ ويبتعد عنّا/ أيّتها القصيدة/ أنتِ ملاذنا في كلّ شيء/ أنتِ فراسة عيوننا/ وذكاء قلوبنا/ ووسْوسات أنفسنا/ وفتنة أرواحنا/ أيّتها القصيدة/ أنتِ المعجزة التي لا تتوب عن صنْع المُعجزات”.
(هنا انتفض بورخيس مُندهشاً، وحيّاني تحيّة مَن تفاجَأ على حين غرّة بقضيّة أثيرة على قلبه وعقله، وشَرَعَ يمدح بي مدْحاً أخجل من سرد أوصافه وربّما من مجرّد الإشارة إليها).
وعدتُ من جديد أسأل محدّثي عن وجه تأثُّرِه بالشاعر روبن داريو، فأجاب:
لا يُمكنني أن أحدِّدَ مَعلماً شعريّاً بذاته تَرَكَ بصماته المباشرة عليّ. جُلّ ما لفتني في ظاهرة الشاعر روبن داريو، هو طقس التجديد الشعري الذي أتى به، وأَلبسه قصيدته، وكذلك سرده القصصي، وخصوصاً في ديوانه المهمّ للغاية: “أزرق” الصادر في مدينة فالبارايسو التشيليّة سنة 1888، والذي اعتبَره النقّاد الكبار، وفي مقدّمهم الإسباني خوان فاليرا الكِتاب/ المفاجأة، الذي أَطلق مسار الحداثة والتحديث في الشعر المكتوب باللّغة الإسبانيّة، ليس داخل دول أميركا اللّاتينيّة فحسب، وإنّما في إسبانيا الأوروبيّة عَينها.
- يُقال إنّ الشاعر الفرنسيّ ألبرت سامين هو مَن وَصَفَ ديوان “أزرق” لروبن داريو بـ “الشعر الإسبانيّ الذي لم نعهده من قبل”.. ذَكَرَ هذه المعلومة “روجيه كايوا” في إحدى مُحاضراته، وهو – كما تعرف – ناقد وشاعر وعالِم اجتماع فرنسيّ كبير، كان قد عاش في بوينس أيرس في الأربعينيّات، واختصّ بأدب وأدباء أميركا اللّاتينيّة الكبار (بينهم أنت)، وكان هو سبب انتشار هذا الأدب في فرنسا ومنها انطلق إلى العالَميّة..
انا أصدّق كلّ ما يقوله روجيه كايوا.. أجابني بورخيس وأردف: نعم، روجيه كايوا كان مثقّفاً كبيراً ومَرجعاً تاريخيّاً واسع المعرفة بالأدب المكتوب بالإسبانيّة، شعراً ونثراً. كان متضلّعاً من اللّغة الإسبانيّة، قراءةً وكتابة، وعلى نحوٍ أعمق وأخصب بكثير من شريحة كبيرة من أدباء وشعراء هذه اللّغة نفسها. وقد شكّل الرجل جسراً ثقافيّاً متيناً بين الثقافتَيْن الفرنسيّة والإسبانيّة، أوّلاً، من خلال إنشائه “المعهد الفرنسي” في بوينس آيرس في بداية الأربعينيّات من القرن العشرين. وثانياً حينما انتدبته “مؤسّسة غاليمار” النشريّة في باريس ليكون مُستشاراً لها، ومُشرِفاً على إصداراتها الخاصّة بالأدب والفكر وعِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وسائر ما يتعلّق بالثقافة الناطقة باللّغة الإسبانيّة، ولاسيّما في جزئها الوافد من أميركا اللّاتينيّة، والتي شارَكَ هو في إعداد بعض كتاباتها فائقة التميُّز والغرابة، مُتناولاً، مثلاً، “المقدَّس الوثني” لجماعة المايا والإنكا والأزتيك في أميركا الوسطى، وعرْض متونه، وفضّ لبابه، ومُعايَنة غايته من ذاته.
- وهل صحيح ما يُشاع، سيّد بورخيس، بأنّ روجيه كايوا كان هو مُخترع مُصطلح “دول أميركا اللّاتينيّة” الذي راجَ في الأدبيّات السياسيّة والفكريّة والثقافيّة طيلة عقودٍ طويلة، ولا يزال كذلك، على مستوى العالَم كلّه؟
نعم، روجيه كايوا كان قد عملَ على تكريس هذا المُصطلح وذيوعه بحرصٍ شديد في الأدبيّات السياسيّة والفكريّة والإعلاميّة المُختلفة، وإنْ كان هذا المُصطلح قد وُلد أصلاً في دُول أميركا النّاطقة باللّغتَيْن الإسبانيّة والبرتغاليّة في زمن حرب الاستقلال التي خيضت ضدّ إسبانيا قبل قرونٍ طويلة؛ إذ يُقال إنّ الراهب الدومينيكي الإسباني بارتولومي دي لاس كاساس، كان هو أوّل من أَطلق هذا المُصطلح بدلالاته المُختلفة على البلاد، حيث عُرِف عنه سخطه الشديد على الغُزاة الإسبان الذين عامَلوا بوحشيّة مُطلقة السكّان الأصليّين، واعتَبر أنّ ما جرى لهؤلاء السكّان هو الخطيئة المُميتة بالمعنى الديني القاطع، ولا يُمكن بالتالي للكنيسة الكاثوليكيّة أن تتسامح به تحت أيّ حجّة أو مُبرّر. وقد ألّف الراهب لاس كاساس كتاباً بهذا الخصوص سمّاه “القصّة الموجزة لتدمير بلاد الهند”.
- لنَعُد سيّد بورخيس، مرّةً أخرى، إلى روبن داريو: هل يستحقّ هذا الشاعر برأيكَ الشخصيّ والتقييميّ الإضماريّ لقب “أبو الحداثة الشعريّة والأدبيّة في العالَم النّاطق باللّغة االإسبانيّة”؟
نعم، بكلّ تأكيد هو يستحقّ هذا اللّقب الأدبي الرمزي الرفيع. لكنْ، في المقابل، تقتضينا الموضوعيّة القول إنّ ثمّة شعراء آخرين في مرحلته يستحقّون هذا التشريف العالي أيضاً، من مثل الأرجنتيني ليوبولد لوغونيس والسلفادوري فرنسيسكو غافيديا والتشيلي إدورادو ديلابارا والكوبي خوسيه مارتي، وكلّهم خاضوا في تجارب شعريّة حديثة انعتقت تقريباً من كلّ التزامٍ تقليدي وضوابط صارِمة سابقة. كما تحوَّل الشاعرُ منهم إلى حالٍ فرديّة يزدحم طقسها الداخلي بالعناصر المُتعارِضة، المُتناقِضة والمُتكامِلة في الوقت عَينه. كما باتَ الشعرُ عندهم هو أوج نفسه، وذروة نفسه، الأمر الذي مهَّد لمجيء الأجيال الشعريّة والأدبيّة اللّاحقة في إسبانيا وسائر دول أميركا اللّاتينيّة، والتي أَغنت بإبداعها وعناصر هذا الإبداع – دونما مبالغة – تلاوين المشهد الشعري والروائي الرّاهن في العالَم بأسره.
لكنّ هذا كلّه لا يلغي أبداً أسبقيّة خطوات روبن داريو على درب نقلِ الشعر المكتوب باللّغة الإسبانيّة إلى رحاب حداثة القرن العشرين وانفجارات أنساقها المستمرّة حتّى يومنا هذا.
- الحقيقة أنّ ما تتفضّل به، سيّد بورخيس، تجاه الشاعر روبن داريو، كان قد أقرّ به أيضاً شعراء ثقاة ومميّزون في إسبانيا وأميركا اللّاتينيّة لاحقاً، يتقدّمهم عمالقة من طراز: فريدريكو غارسيا لوركا، وبابلونيرودا، وأوكتافيو باث، وغابرييلا ميسترال وغيرهم.. وغيرهم.. هل مِن تعليق؟
صحيح ما تقوله، وأنا أشارككَ الرأي فيه مائة في المائة؛ فالحقيقة الساطعة تُقدِّم نفسَها بنفسِها، ويقينيّاتها أكبر حتّى من أن يؤشِّر إليها أحد.
بين حداثتَيْن
- لكنْ من المهمّ الإشارة، وبالاستناد إلى ما كان ذَكَرَهُ الشاعر روبن داريو نفسه في أوراقه النقديّة المُتداوَلة منذ العام 1901، إلى أنّ منطلقات الحداثة التي تنكّبها هو، مع شعراء آخرين مُجايِلين له في أميركا اللّاتينيّة وإسبانيا، إنّما كانت جذورها، وأشعّة هذه الجذور، فرنسيّة في المقام الأوّل والأخير. ويذكر هو بالحرف الواحد أنّ شعرَ الشعراء: فيكتور هوغو وشارل بودلير وبول فيرلين وآرثر رامبو قد خَلَبَ لبّه، وجَعَلَهُ باستمرار محفوفاً ومخطوفاً بعجائب صورهم ولغتهم الرمزيّة الجديدة التي دفعته لتحدّي، ليس مألوف القوالب الفنيّة الجاهزة في قصيدته فقط، وإنّما مألوف الحياة نفسها. كما أنّ شعر هؤلاء الفرنسيّين الكبار حرَّره، حتّى من كلّ “قيمة ثقيلة” مسبّقة أو “مقدّس مسبّق”، فخاضَ في آفاقٍ شعريّة تجريبيّة أَلغت لديه لاحقاً مُختلف الحدود بين الأجناس الأدبيّة نفسها.. ما تعليقكَ؟
عن تساؤلي هذا ردَّ بورخيس بعد إطراقٍ بالقول: روبن داريو كان شاعراً مُدرِكاً أنّ تجربته الشعريّة الرياديّة لا يُمكن لها أن تُحقِّق ذاتَها بذاتِها وعلى نحوٍ أظهر فأظهر، إلّا بعد استفادتها من تجارب شعراء حداثيّين سبقوه إلى الريادة الإبداعيّة في بلادٍ أخرى، تقدّمتها هنا فرنسا، وما جرى فيها من ثوراتٍ أدبيّة وفكريّة شعّت، ليس على إسبانيا والعالَم الناطق بالإسبانيّة فقط، وإنّما على أوروبا والعالَم بأسره. غير أنّ إسبانيا، ومعها بلدان أميركا اللّاتينيّة كانت – وكما أَسلفتُ القول من قبل – غارقة في نَوعٍ من المُراوَحة التقليديّة البليدة، والتكلُّس الأدبي المُخيف، الأمر الذي جَعَلَ رموزَها الإبداعيّة الحيّة تثور على واقعها بشتّى السبل النقديّة والثقافيّة، وتسعى لتغييره وتطويره ما أمكنها ذلك، أسوةً بالأُمم الراقية الأخرى.. ودائماً من خلال مُعادَلةٍ تقول إنّ الأدب الجديد هو بالضرورة عنوان المُجتمع الجديد والحضارة الجديدة.
ومن هنا وَجَدْنا روبن داريو (ومعه بالطبع شلّة ممَّن يشبهونه في العالَم الناطق بالإسبانيّة) مسكوناً وبقوّة بهاجس التغيير والتطوّر، ليس في مضمار الشعر والأدب فحسب، وإنّما في مضامير الفكر والسياسة أيضاً، فقد كان هذا الشاعر وقتها متأثّراً بالفكر اللّيبرالي الحرّ، ومن أشدّ المُتحمّسين له، والخائضين فيه المعارك تلو المعارك بغية تكريس نهج هذا الفكر في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في البلاد، وجعْل الديمقراطيّة عنواناً عريضاً دائم النشدان لها. ساعد على ذلك كلّه أنّ الرجل كان صحافيّاً وديبلوماسيّاً مؤثِّراً، ينتقل من دولةٍ أميركيّة لاتينيّة إلى أخرى، يكتب في كبريات صُحفها اليوميّة ومجلّاتها الأسبوعيّة، مروِّجاً لأفكاره اللّيبراليّة الداعية إلى العدالة الاجتماعيّة والدمقْرَطة المُستدامة؛ وكان تأثيره قويّاً على الجمهور الناطق بالإسبانيّة أينما حلّ، حتّى وصفوه في تشيلي بـ “المُبدع الحيوي على جبهتَيْ الشعر الجديد والسياسة العملانيّة الجديدة”. كما ذاعَ صيته أكثر في أوروبا عندما كان يتردّد على مدريد وباريس، حيث كان يعمل في صحيفة “لاناسيون” الإسبانيّة.
- يُقال إنّ الشاعر روبن داريو التقى في العام 1893 بالشاعر بول فيرلين في باريس، ولم يكُن اللّقاء بينهما وديّاً على الإطلاق، على الرّغم من أنّ داريو كان شديد التأثُّر بشعره وأكثر بكثير من تأثُّره بشعر فيكتور هوغو.. ما السبب في ذلك يا ترى؟
هذا أمرٌ تحدَّثت عنه الصحف القديمة في ماناغوا عاصمة نيكاراغوا بلد الشاعر داريو نفسه، وكذلك الصحف القديمة في الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا والمكسيك وإسبانيا، وجَعلت السبب في فَشَلِ اللّقاء بين الشاعرَيْن وقتها، يعود إلى الشاعر بول فيرلين نفسه الذي كان مزاجيّاً للغاية، ولم يستأنس، بالتالي، للنديّة الإبداعيّة التي أبداها تجاهه الشاعر روبن داريو، فبادَرَ فيرلين على الفور لإنهاء اللّقاء والانصراف من المقهى الذي جَمَعَهُما.
ونحن، على أيّ حال، وصلتنا هذه المعلومات بالتواتُر، ونقلاً عن ألسِنة شعراء وأدباء ونقّاد قبل مرحلتنا الزمنيّة؛ وشخصيّاً أنا لا أستطيع الجزم بها بشكلٍ نهائي، لكن من تحليلي لشخصيّة الشاعر بول فيرلين، كما استقيتها من شعره، ومن سيرة حياته، يجعلني أرجّح أنّه كان عصبيّاً حادّ المزاج، ولا يصبر على أمرٍ لا يرتاح له أو حتّى يشكّل شبه تحدٍّ وهميّ لمعنويّاته.
وفي المقابل، يقول تحليلي لشخصيّة الشاعر روبن داريو، إنّه هو الآخر كان لا يُسلّم بسهولة للآخرين الذين لا يتوافق مزاجه مع مزاجهم منذ اللّحظات الأولى، بخاصّة وأنّه كان قد حقَّق في ذلك التاريخ من لقائه بالشاعر بول فيرلين شهرةً إبداعيّة عريضة، ومُتوالية الرسوخ في عالَمه الثقافي الناطق باللّغة الإسبانيّة.
كما أنّ اهتمام روبن داريو بالنشاط السياسي الدؤوب جَعَلَهُ، على مستوىً آخر، يَنفر من الشعراء والأدباء والمثقّفين الذين ينأون بأنفسهم عن السياسة، باعتبارها، بحسب رأيه، في المقدّمة من الشؤون العامّة التي بواسطتها يتمّ التغيير الحقيقي، وعلى مُختلف الصعد، بما فيها الصعد المتعلّقة بمفاهيم الحياة والأدب والثقافة وأولويّات الفكر والعِلم. وعليه فالسياسة، من وجهة نظره، ليست مُماحَكة أو مُراوَحة في تضييع الوقت، بل هي أداة للتغيير الجدّي والحاسم، وإرساء النهضة المنشودة في حياة الشعوب والأُمم.
- ولكن أليسَ الإبداع و”السلوك الإبداعيّ” هو بحدّ ذاته سياسة من نَوعٍ آخر، لها شأنها ودَورها الذي قد يكون هو الآخر رافِعةً للأوطان والإنسان في كلّ مكان؟
كل إبداع حقيقي، مهما كان خالص الفرديّة، ينتمي إلى الشأن العامّ، بمعزل طبعاً عن التبعيّة الإيديولوجيّة لهذه الجهة أو تلك، أو مسألة الإيديولوجيا بشكلٍ عامّ، والتي أرفضها مُصطلحاً وفكرةً واستهدافاً.
- ولكنّ البعض يرى أنّ التطوُّر أو التحديث باتَ هو الآخر عقيدة أو إيديولوجيا.. ما رأيك، وخصوصاً أنّ التمسُّك بـ “عقائد التقليد” والمُراوَحة في المُحافظة والرجعيّة والتأخُّر الاجتماعيّ، أَنتجت جميعها حداثةً اعتباريّةً ومُتجاوزة أيضاً، هي حداثة اليابان الصلبة، والتي ولَّدت بدَورها نهضةً متألّقة ومُستمرّة في بلاد ميجي؟
يجب أن نفرِّق هنا بين معنى الإيديولوجيا كترجمةٍ أدبيّة لعِلم الأفكار، وبينها كمعنىً صراطي عنفي يجمع بين الهدف والوسيلة معاً. مُخترِع مُصطلح الإيديولوجيا الفرنسي “ديستوت دو ترايسي” في العام 1796، كان يركّز على منظومة عِلم الأفكار وطَرَحَها في إطارٍ فلسفيّ يفيد المفكّرين والفلاسفة والشعراء، ويدفعهم إلى التفكير المنظّم والمُنتِج للمسيرة التغييريّة وكيفيّة الوصول إلى الأهداف. ومن هنا رأيناه يمدح الشاعر فولتير، هذا الأنواري الهائل الذي كان رائداً للإصلاح الاجتماعي والديني بنوعٍ ما، ودائماً انطلاقاً من مبدأ الإصلاح السياسي وتحقيق مبادىء الديمقراطيّة والحريّات.
وأشاد “ديستوت دو ترايسي” (1754 – 1836) كذلك بكتاب “روح الشرائع” لمونتسكيو، ونَصَحَ باتّباعه منهجاً قوانينيّاً للفكر الحرّ، كيف لا وهو كتاب تضمّن مفاهيم وحيثيّات فلسفة القانون، وعلم الإنسان، وتنظيم حياة البشر، بدءاً من مسألة إلغاء العبوديّة، ورسْم الدستور للدولة الجديدة التي حقّقت فصْل السلطات، وكرَّست الحريّات المدنيّة، كما أَنتجت لاحقاً ما سُمّي بالديمقراطيّة اللّيبراليّة.
باختصار كتاب مونتسكيو “روح الشرائع”، هو بحث في الأفكار السياسيّة، وهندسة المشاعر الاجتماعيّة وترسيخ الأمن والأمان للإنسان على مختلف الصعد السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتربويّة وحتى العسكريّة المُنضبطة.
وعن هذا الكتاب الذي ضمّنه مونتسكيو حوالى 3000 وصيّة قرأتُها أنا شخصيّاً (والكلام لبورخيس) بمُتعةٍ أدبيّة و”إيديولوجيّة حرّة” إنْ شئتَ، اقتبسَ كبارُ المفكّرين في الغرب نقاطاً محوريّةً صارت فيما بعد من صلب مبادئهم وأفكارهم الثوريّة المُلتزِمة بحقوق الإنسان وحريّاته.
ومن هؤلاء الكبار، كان المفكّر والفيلسوف السياسي الفرنسي “ألكسيس توكفيل” الذي كان زار الولايات المتّحدة الأميركيّة، ووَضَعَ هناك كتاباً سمّاه “الديمقراطيّة في أميركا” – 1835، حاكى خلاله العديد من أطروحات كِتاب “روح الشرائع” لمونتسكيو؛ مُطابقاً بينها وبين وضعيّة القوانين التي تنتظم وفقها حياة الدولة والمُجتمع في أميركا، ثمّ أجرى تطعيماً لها، اجتهدَ معه أن يأتي بقوانين جديدة أكثر مرونة ومُلاءمة لحياة الأفراد والجماعات هناك.
ولدى عودته إلى فرنسا، عزّز توكفيل من مواقفه السياسيّة المستقلّة، أي تلك التي لا تنتمي إلى يمين أو يسار، وهي مواقف كان قد اعتمدها، في المناسبة، بعدما طلّق انتماءه الأوّلي لليسار الفرنسي، ثمّ فيما بعد لليمين، الذي كان قد انخرط في صفوفه مدّةً غير طويلة، مُفضّلاً بعدها خيار الحياد السياسي الإيجابي، وهو خيار لم يصرفه عن النضال لتحقيق العدالة الاجتماعيّة مُندمجةً بالديمقراطيّة على الطريقة الأثينيّة القديمة، والتي كان متعلّقاً بأنساقها النظريّة أيّما تعلُّق.
وحتّى لا ننسى مُخترع مُصطلح الإيديولوجيا “ديستوت دو ترايسي”، نقول إنّه كان هو الآخر بارعاً في الاشتغال على ضفَّتَيْ السياسة بمحورَيْها المركزيَّيْن الشهيرَيْن: اليمين واليسار. ولقد توصَّل إلى الجمْعِ بين العديد من أطروحاتهما بكثيرٍ من الجرأة والثقة المُتمادية، وخصوصاً أنّ هذا الجمْع كان قد أَوصله كما يقول إلى “حالة ثالثة” يُمكن أن نُسمّيها “إيديولوجيا حرّة” أو منظومة أفكار حيويّة التصويب، تهدي ولا تُحرِّض، تسلس ولا تسوس بزجر.
- هل تريد أن تقول، وبترجمةٍ أخرى، إنّ الإيديولوجيا في أصلها وفصلها كانت قد استبْقَت دلالتها المُعاصرة فأضحت اليوم، مثلاً، غليظة المعنى والمبنى؟
يُمكنك أن تؤوّل هنا ما تشاء يا صديقي العربي.. الأمر مفتوحٌ لك.
- وكيف تُعلّق على قول الفيلسوف الفرنسيّ الكبير لويس ألتوسير: “الإيديولوجيا ليس لها تاريخ”؟
إنّه قولٌ يُفسِّر نفسَه بنفسِه، وينسجم مع تطوّرات حياة الإنسان التي لا تعرف الثبات في شيء. وأهميّة لويس ألتوسير، فيلسوف الماركسيّة المُتجدّدة في فرنسا والعالَم، أنّه كان إيديولوجيّاً وخارج الإيديولوجيا في آن معاً. وأنّه جَمَعَ أيضاً بين فرويد وماركس على قاعدةٍ تحليليّة من النسق البنيوي الذي لا يُمكن لأحدٍ غيره أن يَجمعه.
كنتُ، ولم أزل، مع طرْحه الرافض لجعْلِ الفلسفةِ عِلماً؛ فالفارقُ كبيرٌ بينهما: إنّ العِلمَ يأتي بالحلول الجازِمة، بينما الفلسفة تبقى في صيرورة السؤال.
شُغل الفلسفة الدائم يا صاحبي، هو أن تطرح الأسئلة، تماماً كما هاجس الشعر العظيم.
*مؤسّسة الفكر العربي
قم بكتابة اول تعليق