أفق – د. محمود الذوّادي*
تتشابه الظواهر كثيراً على الكوكب الأرضيّ، ما يبعث أحياناً على التعجُّب الكبير المُذهل الذي لا يكاد يصدّقه معظمُ الناس. لكنّ هذا التشابُه يُثير تساؤلاتٍ مَعرفيّة/ إبستيمولوجيّة عميقة ومشروعة في الصميم. فلماذا يَقع التشابُهُ بين ظواهر مُختلفة ظاهريّاً للغاية؟ بالطبع يوحي مثل هذا التشابُه باستنتاجٍ بسيطٍ يومئ إلى وجود مصدرٍ أصليّ واحد للظواهر؛ فبعض الأديان السماويّة تتحدّث بصوتٍ عالٍ عن وحدة الكَون.
القرآن الكريم، مثلاً، يُردِّد في سورِه المتعدّدة أنّ الله هو خالق السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى. أيّ إنّ أصل جميع ظواهر الكَون واحد: الله. “الله الذي خَلق السموات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام” (السجدة 4).. كما أنّ الدعوات المُتصاعِدة المُنادية بتوحيد العلوم بكلّ أصنافها، على الرّغم من الظواهر المُختلفة التي تدرسها تلك العلوم، هي دعوات تنطوي على اعتقادٍ قويّ بوحدة أصل تلك الظواهر، ومن ثمّ ضرورة تشابُهها في نهاية المطاف؛ اعتماداً على مقولة فكرة التشابُه بين الظواهر، نودّ طرْح فكرة التشابُه بين ظاهرتَيْن لا يكاد يعتقد أحدٌ في وجودِ تشابُهٍ بينهما.
الحَجْر الصحّيّ والحَجْر اللّغويّ
أَصبح مُصطلح “الحَجْر الصحّي” عالَميّ الاستعمال منذ تفشّي فيروس كوفيد 19 في جميع البلدان ابتداء من مطلع العام 2020. فللوقاية والحدّ من جائحة كورونا، لجأت المُجتمعات إلى تبنّي سياسة الحَجْر الصحّي الذي يتمثّل في نقصان الاختلاط بين الناس واستعمالهم البروتوكولات الصحيّة كلباس الكمّامات والابتعاد الاجتماعي.
أمّا مُصطلح “الحَجْر اللّغوي” فهو يشبه نظيره الصحّي، إذ يدعو في هذا المقال إلى الوقاية من التدريس بغير اللّغة الوطنيّة في التعليم في جميع مراحل التعليم الابتدائيّة والإعداديّة والثانويّة؛ أيّ أنّ مُصطلح الحَجْر اللّغوي يعني هنا عدم المَزج اللّغوي في تدريس الموادّ في المراحل الثلاث المذكورة. وبعبارة أخرى، يجب أن يتمّ التدريس باللّغة الأمّ أو باللّغة الوطنيّة فقط. هذا ما نجده بارزاً في المُجتمعات المتقدّمة بخاصّة.
احترام المُجتمعات للُغاتها
تكاد لا تُحصى أمثلةُ المُجتمعات المتقدّمة التي تُستعمل فيها لغات الأمّ وحدها في كلّ شيء. فالوطنيّة اللّغويّة في مُقاطعة كيباك الناطقة بالفرنسيّة في كندا، جعلت استعمال اللّغة الفرنسيّة في الكتابة أمراً إجباريّاً في كلّ شؤون الحياة في المُقاطعة. وتُعتبر سويسرا مُجتمعاً مثاليّاً لاحترامها للغاتها الأربع: الألمانيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والرومانيّة.
غياب الوطنيّة اللّغويّة
تُشير الكثير من الأحداث التونسيّة إلى ضُعف الاهتمام بالأمور الوطنيّة وتهميشها في مجلّات الرأي العامّ. مثلاً، فتفضيل استعمال الفرنسيّة بدل العربيّة في المُجتمع التونسي في الإعلان عن نتائج امتحانات البكالوريا وغيرها، يُعتبر نفوراً من رحاب الوطنيّة اللّغويّة. هناك عوامل عدة وراء ذلك السلوك:
1- يفسّر ابن خلدون ظاهرة النفور من اللّغة الوطنيّة/ العربيّة في تونس بملاحظته الشهيرة : “المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالِب”.
2- الازدواجيّة اللّغويّة الأمّارة: أَبرز مؤلِّف كِتاب العقل العربي آثار التعليم الثنائيّ اللّغة (الذي يَستعمل لغةً أجنبيّة في التدريس) في المُجتمعات العربيّة على اللّغة العربيّة، كما هو الحال في التعليم الصادقي التونسي والتعليم العامّ بعد الاستقلال. فوَجَد أنّ هذَيْن النوعَيْن من التعليم، وغيرهما، يؤدّيا عموماً إلى الأعراض التالية لدى خرّيجيهما:
أ ـ الانتماء إلى ثقافتَيْن من دون القدرة على تعريف الذّات بالانتماء الكامل لأيٍّ منهما.
ب ـ التذبذب المزدوج يتمثّل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مُجتمعهم في الوقت نفسه، من دون النجاح في أيٍّ منهما.
ت ـ يتّصف خرّيجو ذلك التعليم بشخصيّة مُنفصِمة ناتجة عن مُعايَشة عاملَين قويَّين مُتعاكسَين: الارتباط بالثقافة العربيّة والانجذاب إلى الثقافة الغربيّة.
ث ـ عداءٌ سافر للاستعمار الفرنسي يُقابله ترحيبٌ كبير بلغته.
تُفيد ملاحظاتُ كِتاب “العقل العربي” بأنّ التعليم التونسي المزدوج اللّغة، لا يُساعد على إرساء علاقة حميمة مع اللّغة الوطنيّة/ العربيّة لسببٍ رئيس، ألا وهو فقدان العلاقة الطبيعيّة في التدريس باللّغة العربيّة. تعني العلاقة الطبيعيّة بين الناس ولغاتهم استعمالهم للغاتهم شفويّاً فقط وكتابيّاً في كلّ شيء. فالعلاقة الطبيعيّة مع اللّغة تؤدّي بقوّة إلى وطنيّة لغويّة صلبة في المُجتمع.
الحَجْر اللّغويّ والعلاقة مع العربيّة
نذكر مثالَين للعلاقة السليمة التي يُنشئها الحَجْر اللّغوي مع اللّغة العربيّة:
1- إنّ خريجي التعليم التونسي في ما يسمّى “شعبة أ” في مطلع الاستقلال في المُجتمع التونسي مثالٌ للآثار الإيجابيّة للحَجْر اللّغوي على العلاقة مع اللّغة العربيّة/ الوطنيّة. لقد دَرَسَ هؤلاء الخرّيجون كلَّ المواد باللّغة العربيّة فقط، من المرحلة الابتدائيّة حتّى السنة الأخيرة من المرحلة الثانويّة. تُشير الملاحظات الميدانيّة إلى أنّهم أكثر خرّيجي المدارس التونسيّة بعد الاستقلال تعاطُفاً مع استعمال اللّغة العربيّة وحماسةً نحوها. أيّ إنّ علاقتهم الطبيعيّة مع اللّغة العربيّة جعلتهم لغويّاً أكثر وطنيّة من باقي الخرّيجين التونسيّين؛ فهُم ينظرون بكلّ عفويّة إلى اللّغة العربيّة، باعتبارها لغةً وطنيّة لها المكانة الأولى في الاستعمال والاعتزاز والدّفاع عنها.
2- يمثّل التعليم الزيتوني الإعدادي والثانوي النَّوع الثاني من نظام التعليم التونسي في عهد الاستعمار ومطلع الاستقلال الذي يتبنّى سياسة الحَجْر اللّغوي؛ فاللّغة العربيّة هي سيّدة الموقف عند المتعلّمين الزيتونيّين الذين يدرسون جميع المواد باللّغة العربيّة.
فقدان الحَجْر اللّغويّ وآثاره السلبيّة على العربيّة
أمّا خريجو باقي التعليم التونسي – وهُم أغلبيّة المُتعلّمين التونسيّين – فهُم فاقدون للحَجْر اللّغوي، أيّ أنّهم درسوا باللّغة الفرنسيّة معظم الموادّ. نذكر الأصناف الثلاثة من تعليم هؤلاء:
1- المدرسة الصادقيّة الثنائيّة اللّغة (الفرنسيّة والعربيّة) قبل الاستقلال، حيث هَيمنت اللّغةُ الفرنسيّة كوسيلةٍ لتدريس التلاميذ التونسيّين الموادّ المُختلفة، بما فيها تدريسهم أحياناً حتّى النحو العربي باللّغة الفرنسيّة، بخاصّة من طرف بعض المُدرّسين الفرنسيّين.
2- همّشت مدارس البعثات الفرنسيّة بطريقةٍ شبه كاملة تدريس اللّغة العربيّة وثقافتها واستعمالهما. ويمثّل الخرّيجون التونسيّون من هذه المدارس عيّنةً تونسيّة مرشَّحة أكثر من غيرها لتبنّي ثنائيّةٍ لغويّة يكاد يغيب فيها استعمال الكلمات العربيّة، لأنّ هؤلاء الخرّيجين هُم شبه أميّين بالكامل في اللّغة العربيّة. فبحوث العلوم الاجتماعيّة ترى أنّ مثل ذلك التكوين اللّغوي الثقافي الفرنسي يُحدِث غُربةً جسيمة بين المتعلّمات والمتعلّمين التونسيّين ولغتهم وثقافتهم العربيّتَين، فتَرتبك لديهم وتتشوّه تصوّراتهم الصحيحة إزاء لغتهم وثقافتهم، بحيث يصبحون مرشَّحين للنظر إليهما بقليل أو بكثير أو بدرجة متوسّطة من التحقير والدونيّة. ومن المُنتظر أن يُحدِث مثل هذا التكوين اللّغوي الثقافي الأجنبي المُهيمِن تشويشاً وتصدُّعاً في الانتساب للهويّة العربيّة الإسلاميّة بدرجاتٍ مُختلفة للخرّيجين التونسيّين من مدارس البعثات الفرنسيّة والمدرسة الصادقيّة. يجوز القول إنّ التعليمَ في كلٍّ من مدارس البعثات الفرنسيّة والمدرسة الصادقيّة، هو تعليمٌ مرشَّحٌ بقوّة لكي يُمهِّد لقبول، وحتّى الترحيب بالاستعمار اللّغوي الثقافي الفرنسي لدى عديد من التونسيّات والتونسيّين. ويعود ذلك أساساً إلى فقدان خرّيجي تلك المدارس إلى ما نسمّيه في هذا المقال الحَجْر اللّغوي.
3- أمّا النظام التربوي التونسي منذ الاستقلال، فقد كرَّس ويكرِّس تواصُلَ فقدان الحَجْر اللّغوي. وهكذا، فالأجيال التونسيّة المتعلّمة منذ الاستقلال هي أجيال لم تطبّق الحَجْر اللّغوي، ومن ثمّ يستمرّ مَرَضُ عدوى استعمال اللّغات الأجنبيّة بين معظم فئات المُجتمع التونسي.
العهد البورقيبي وغياب الحَجْر اللّغويّ
إنّ ما يَجمع بين شخصيّات العهد البورقيبي ومعظم المُتعلّمين التونسيّين، هو تعليمهم الثنائيّ اللّغة لمصلحة لغة المُستعمِر على حساب اللّغة العربيّة/ اللّغة الوطنيّة: تعليم فاقد للحَجْر اللّغويّ. وهكذا، فموقف أغلبيّة التونسيّات والتونسيّين اليوم يُسانِد نظام التعليم التونسي الثنائي اللّغة، ويَعتبر إيجابيّات هذا النظام التعليمي مسلّمة من المسلّمات غير القابلة للمُساءلة والشكّ في أفضليّتها. بينما قليلٌ من الوعي والتفكير من طَرَفِ هؤلاء ينسف ركائز تلك المسلّمة فيفضح معالِم بطلانها. مثلاً، كيف يعقل أن يقعَ الاعتقاد إيجابيّاً في ذلك التعليم الثنائي اللّغة والحال أنّ عدداً ضخماً من خرّيجيه ليست لهم علاقة طبيعيّة مع اللّغة العربيّة/ لغتهم الوطنيّة التي طالما يعتبرونها، نفسيّاً وفي الاستعمال في شؤونهم الشخصيّة والمجتمعيّة، وكأنّها لغة ثانية أو ثالثة. فالتعليم التونسي الثنائي اللّغة لا يكاد يحمي التونسيّات والتونسيّين من مَعالِم الاستلاب اللّغوي؛ فخرّيجو المدرسة الصادقيّة الثنائيّة اللّغويّة ونظراؤهم المُتعلّمون في المدارس والمعاهد والجامعات التونسيّة في عهد الاستقلال لم يَسلموا من مَعالِم الاستلاب اللّغوي بسبب فقدانهم لنظامِ تعليمٍ يكون فيه الحَجْر اللّغوي هو الأساس الطبيعي، كما تفعل أنظمة التعليم في المُجتمعات المتقدّمة على الخصوص.
الحداثة والاستعمار وفقدان الحَجْر اللّغويّ
يأتي تأثيرُ عاملَيْ الحداثة والاستعمار على فقدان العلاقة السليمة مع اللّغة العربيّة في المُجتمع التونسي. وعدوى تفشّي اللّغة الفرنسيّة، عموديّاً وأفقيّا،ً في المُجتمع التونسي ظاهرة بلا حدود نقتصر على ذكر عيّنة محدودة للغاية منها، مثل استمرار وزارة التربية في عدم استعمال اللّغة الوطنيّة/ العربيّة في التصريح بنتائج الشهادة الرسميّة. وكذلك هَيمنة كتابة اللّافتات باللّغة الفرنسيّة في الشوارع التونسيّة واستعمال الأغلبيّة الساحقة من التونسيّات والتونسيّين للّغة الفرنسيّة في كتابة صكوكهم المصرفيّة وغياب الاحتجاجات على اللّافتات المكتوبة بالفرنسيّة فقط في أماكن لا تحصى. وهذه كلّها شهادات ميدانيّة على ضُعف الوطنيّة اللّغويّة أو فقدانها بالكامل في المُجتمع التونسي، وظواهر لغويّة مرتبطة بغياب مُمارَسة الحَجْر اللّغوي.
من اللّافت أنّ الأغلبيّة الساحقة من التونسيّات والتونسيّين قبل الثورة وبعدها لا ينظرون إلّا بإيجاب إلى نظام التعليم الفاقد للحَجْر اللّغوي كما عرفته التجربة التونسيّة قبل الاستقلال وبعده. وهي رؤية مَبنيَّة على جهلٍ بأبجديّة تعلُّم لغة الغَير بطريقةٍ سليمة تُحافِظ على أولويّة استعمال اللّغة الوطنيّة قبل أيّ لغة أخرى، وهو أمر لا يتحقّق بطريقة طبيعيّة من دون الحَجْر اللّغوي.
أستاذ علم الاجتماع من تونس
قم بكتابة اول تعليق