مدينة الزمامرة : التنمية المسلوبة وتغييب الفعل الثقافي

الكاتب : قبس عبدالله

بعد مشاريع التنمية المحلية التي شهدتها خميس الزمامرة بإقليم سيدي بنور، تحولت البلدة الدكالية المتواضعة إلى مدينة تشع بفضاءات وخدمات خاصة ومداخل تغري الزائر والمستثمر والمواطن على حد سواء.  ولقد انتفع بهذا الحس الاصلاحي نسبة لا بأس بها من الأحياء السكنية الغارقة منذ سنوات في مستنقعات الاقصاء والتهميش . لتنتقل الساكنة من دائرة الحرمان إلى الاستفادة من المواطنة الحقة التي تتأسس على العيش الكريم والوعي بالواجب. 

تشمل هذه الاستفادة تفعيل الأوراش التي تهم البنيات التحتية، من خلال إحداث فضاءات ومنتزهات، تأهيل الطرقات وصيانتها، تجويد الإنارة العمومية. وغيرها من المشاريع التي تحيل على وجود قدر من الالتزام واليقظة التدبيرية في تسيير الشأن المحلي وتحسن نسبي في منسوب المسؤولية.

وهي منجزات تستجيب لبعض حاجات المواطن وتطلعاته، في ظل هيمنة المشروع الرياضي الذي يستأثر باهتمام أصحاب القرار، إذ يحصد حصة الأسد أثناء إعداد مشروع الميزانية المحلية. مما ينعس سلبا على اقتراح مشاريع أخرى ذات صلة بضرورات العيش الكريم، وهي بالأحرى – هذه المشاريع الأخرى الغائبة – أوراش حقيقية تستوجب التفاتة ودعما وتدبيرا تشاركيا مثل مشروع المستشفى المحلي بالزمامرة الذي يفتقر إلى المعدات واللوازم الطبية الضرورية. مع ما يرافق هذا العوز في مستوى الخدمة الصحية من تأخر تسريع وتيرة الأشغال ببعض الأحياء كحي السلام، أو غياب تفعيلها بصورة مرضية في مناطق سكنية لأسباب تقنية محضة أو أسباب أخرى تظل مجهولة.

ومع هذه السلبية التي تنخر في جسد التنمية فتشل حركته، يمكن أن نعد مدينة خميس الزمامرة أوفر حظا، إذا قورنت مع جماعات أخرى قريبة جغرافيا. غير أن هذا الحظ الجزئي الذي يضمن للمواطن نصيبا متواضعا من حقوقه وكرامته، يظل حظا متعثرا مشوبا بنهايات تعيسة. وتظل الانطلاقة الزمامرية نحو التغيير المنشود بداية مشوهة لخطوات تنمية عرجاء أو تنمية بشلل نصفي. وذلك أن هناك أزمة ثقافية حقيقية تنخر في جسد هذه الإصلاحات والأوراش . بل ويتفشى هذا العوز الثقافي والمجاعة الفكرية إلى جانب الكوفيد ١٩. ليصبح إقصاء الفعل الثقافي وأنشطته وممارساته وباء آخر أشد فتكا وضررا من كورونا القاتلة . 

يعبث هذا الاقصاء بروح الإصلاح واستمراريته، فيغتال تأثيرات التنمية الإيجابية وما تشهده خميس الزمامرة من استفاقة نسبية للجوانب الخدماتية . ويحول اغتيال البعد الثقافي المعرفي ونفي المشاركات والمبادرات الفنية دون استشعار المسؤول والمواطن بقيمة ما يحدث من تغيير محمود وتنمية إيجابية. ويمنع افتقاد الوعي بجماليات الفضاءات وقيمتها دون إدراك ماهية هذه المواطنة الحقة الجديدة القائمة على حسن استثمار بعض أوراش المدينة وصيانتها. وهو ما يؤدي إلى غياب التوافق الإيجابي والالتزام الضمني المتبادل بين الساكنة والمسؤولين من أجل استكمال مبادرات التنمية واستمراريتها. انطلاقا من الحفاظ عليها أو بامتلاك حس المواطنة الفاعلة التي تتأسس على الجرأة والشجاعة المطلوبة للمطالبة بتحسين جودة ما يتم اقتراحه وتفعيله من منجزات . وهو ما يفضي بصورة مباشرة، إلى اغتيال وتخريب أوراش التنمية في مهدها.


تظل المدينة في أمس الحاجة إلى وعي ثقافي، ونهضة فكرية أكثر منها رياضية؛ نهضة ذهنية معرفية اكثر منها عضلية كروية ، نهضة تجسد تفكيرا ملتزما من لدن المجلس البلدي والمواطنين بجدوى الندوات العلمية، والتظاهرات الثقافية، والمحاضرات المعرفية، وتفعيل أدوار الفاعلين الثقافيين، انطلاقا من إحياء مهام دار الثقافة حتى تسترجع أدوارها وفاعليتها، إذ كانت تشكل في الماضي فضاء ثقافيا بامتياز من أجل عرض الأنشطة الفنية واحتضان العروض المسرحية. واسترجاع مشروع الخزانة البلدية الذي كان متنفسا حقيقيا ينقذ الطلبة من براثن الشارع والانحراف. 

وسنقدم تفسيرا سريعا وبرهنة مبسطة على مركزية هذا الفعل الثقافي المغيب. انطلاقا من الربط بين ما يحدث من نهضة وتنمية نسبية، وما يتصل بهما من لامبالاة وتخريب واهمال، وذلك بسبب عدم إدراك قيمة الوعي وعدم الايمان بجدوى المعرفة والعلم الذين يوفرهما الحس الثقافي : 


1- الفضاءات الرياضية من ملاعب وقاعات مغطاة ومركبات للقرب وملاعب للتنس.  تمنح المواطن كل الفرص للانخراط والاستفادة مقابل أداء واجب محدد ومقبول . ولكن يقل بل ويندر إقبال ساكنة الزمامرة ومشاركتهم في هذه الأنشطة المتنوعة ذات الفضاءات المتميزة القيمة. مما يضطر بعض  المشرفين من المدربين والعاملين إلى التوقيف القسري أو الانسحاب والتقهقر المعنوي والمادي بل والتشرد . 

ولعل السبب الرئيس الذي يجعل هذا الانخراط والتفاعل مع الأنشطة الرياضية ضعيفا وشبه منعدم؛ هو ثقافي معرفي يتصل بتفكير المواطن وثقافته، إذ لا يدرك بعد جدوى البعد الرياضي وأهميته في تنمية الفكر والرقي بالحياة اليومية وتهذيب السلوك. ولأن العديد من المواطنين لا يملكون وعيا رياضيا بجدوى هذه الممارسة الانسانية . وهو ما يجعلنا نتحدث عن تغييب أدوار الفاعل الثقافي الذي سينير العقليات ويهذبها من خلال ندوات وتظاهرات ولقاءات تشبع حاجات المواطن المعرفية، وتخرجه من دوامة الجهل بروح الرياضة وثقافتها.


2- المنتزه الجديد فضاء رحب نقي ممتع، يشمل بعض ألعاب الأطفال، أماكن خاصة للجلوس، أماكن خاصة لممارسة بعض الرياضات مثل رياضة المشي والهرولة أو الجري، وحدائق تضفي جمالا إلى شوارع المدينة وتعمل كمتنفس للقاطنين من أبناء المناطق المجاورة. وهو ما يشكل فرصة لاستجمام السواد الأعظم من أسر مدينة الزمامرة.  غير أن هذا الفضاء الذي استهلك حصته المهمة من الميزانية، يتعرض في كل مرة للتخريب بسبب تهور ولامبالاة بعض المواطنين، وقيام أصحاب النفوس السيئة بالعبث بممتلكات الحديقة كتكسير المقاعد وأماكن الجلوس واللعب، وإتلاف مصابيح الإضاءة وتكسيرها، وإفساد الحديقة والشتلات والأشجار المزروعة فيها. وهي اللامبالاة التي تفسد جمالية هذا المنتزه في غياب الوازع الأخلاقي أو المسطرة القانونية الزاجرة أو مواكبة المشروع وصيانته. 

ولقد شهد حي النهضة نفس أعمال العبث والتخريب . فقبل سنوات تم تدشين منتزهات مهمة، وانشاء شلالات صناعية بإنارة بديعة. ولكن بسبب غياب الوعي بثقافة البيئة، وعدم استخدام معظم الساكنة للحدائق والألعاب بصورة صحيحة، وبسبب غياب مسطرة قانونية حقيقية تطبق عقوبات على كل من سولت له نفسه العبث بالأملاك العامة، فقد انتهى المشروع بالتخريب التام في أسابيعه الأولى. ولم يعد للمنتزه ولا للشلالات ولا للانارة وجود . ولعل الكارثة الكبرى هي ما يخلفه غياب هذا الحس المعرفي والفعل الثقافي من جرأة بعض الآباء والأمهات واستهتارهم، إذ يشهدون ما يقوم به الأبناء من سلوكات سيئة إزاء البيئة والمنتزه. أليس هذا التخبط والفوضى بسبب غياب الفعل الثقافي ؟ أليس هذا التخريب جزءا من عقلية مخربة تفتقد التأطير العلمي والإشراف والتحسيس بوسطة المنتديات والمؤتمرات والحملات وأدوار دار الثقافة ودار الشباب ؟ ألم يكن جديرا بأصحاب القرار السياسي والتدبيري أن يحرصوا على تشجيع الفاعل الثقافي وحفزه على تنظيم تظاهرات تحسس المواطن بقيمة المنتزهات، وتدعوهم إلى المحافظة عليها وردع كل من تسول له نفسه إفسادها؟ 

3- الجهود الأمنية جبارة لتحسين حركة السير وضبطها، والمعارك متواصلة ومضنية مع معظم أرباب السيارات والعربات حتى يلتزموا بمسالكهم القانونية تفاديا للحوادث وعرقلة حركة المرور. ومع ذلك يتكاثر أصحاب العاهات العقلية الذين يقفون هنا وهناك ، وينتشرون بصورة يومية وفي أماكن مخالفة تتسبب في إزعاج الآخر وإرهاقه. ويتضاعف عدد الراجلين المستهترين ممن يعتقدون أن ممارسة رياضة المشي والتنزه وسط الطريق بأريحية ، هو حق مشروع بل وواجب مقدس . ويقبل الآباء والأمهات رفقة أطفالهم مع أسر أخرى، ليتبادلوا التحيات والدردشة في أماكن مزدحمة بالسير. وكلما أراد المواطن الذي يتحصل على قدر كاف من الوعي والثقافة والمعرفة أن ينبه أحدهم أو إحداهن إلى ضرورة احترام ضوابط المرور وإشاراته، تنهال عليه اللعنات من قبل عامة الناس. لأن هذا عرف القوم وحقهم المشروع في ممارسة جميع أنواع المخالفات. وهو ما يصعب مهام رجل الأمن الذي يمضي يومه في تصحيح العقليات وزجر المستهترين . أوليس هذا العبث جزءا من تغييب الفعل الثقافي ؟ أتصبح توعية المواطن وتحسيسه بضرورة الالتزام بحركة السير مهمة يومية مضنية، يمارسها رجل الأمن بدل من المهام الرئيسية؟ ألم يكن حريا بالفاعل الثقافي أن يضطلع بهذه المهمة ؟ ثم أين هذا الفاعل الذي يحتاج إلى حفز معنوي وإشراف مادي حتى يخرج ممارسته وأنشطته إلى حيز الوجود ؟ 

4- يسهر المجلس الجماعي على ضمان الوقاية الصحية والنظافة وحماية البيئة، وهي مهام تؤثر بصورة مباشرة على صحة الساكنة وجمالية مدينة الزمامرة. والعاملون في هذا الميدان على الرغم من معاناتهم من تهميش واسع يضعهم في أدنى السلم الاجتماعي. فهم يحرصون على تنفيذ أعمال النظافة العامة، والتخلص من النفايات، والعمل على نظافة الطرق والشوارع  والميادين العامة. لا سيما أنهم قاموا بحملات تطهير واسعة النطاق لتأمين النظافة جراء انتشار فيروس ” كورونا ” . ولكن رغم ما يتم تقديمه من تضحيات، فإن هناك فضاءات سكنية تتجمع فيها النفايات المكدسة بسبب لا مبالاة البعض. بل إن هناك أطنانا من الحجارة والتراب والأزبال التي تحاذي بعض الأحياء السكنية بحي السلام . ومما يزيد في طين التكدس بلة هو خطورة الغازات المنبعثة من جراء عملية حرقها بشكل شبه دوري، مما ينتج عنه من أضرار خطيرة لهذه الساكنة. وتفاقم معاناة المرضى والأطفال الصغار والرضع بسبب السموم التي تجتاح الأجواء.

العمال يشتغلون وينقلون القمامة إلى الأماكن المخصصة لإيداعها والتخلص منها ، وبعض المشاغبين يصر على التخلص منها وإحراقها قرب المناطق السكنية. العمال يلتقطون القاذورات من الممرات والطرقات والأحياء، وآخرون يتقاذفون ببقايا الخضروات والمأكولات هنا وهناك دون رقابة أو عقوبة زجرية. وهو ما يبعث على الفوضى والاستهتار. ألا تعد هذه السلوكات ضربا في معايير الوقاية الصحية ؟ ألا توجد قوانين ينضبط وفقها المجتمع والمسؤولون من أجل مضاعفة المجهودات وزجر التافهين، ممن لا يضرهم لا تكدس النفايات ولا رائحة المحروقات من القاذورات ؟ ألا يستدعي هذا العبث حملات تحسيسية ووضع برامج توعية للمواطنين وزجرهم ؟ ألا يوجد شيء إسمه التنسيق مع الفاعل الثقافي والإعلام المحلي فيما يخص تنمية الحس البيئي الصحي ؟ وهو الحس والوعي الذي يستجيب للبروتوكول الصحي الصارم الذي يدعو إلى النظافة. 

ومن هنا، ندرك أن استمرارية بعض الأوراش الاصلاحية وتقدمها خطوة أو خطوات نحو تحقيق التنمية المرجوة. لا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة سياسية حكيمة تحرك الفعل الثقافي وتقدر أهميته. وذلك لأن الممارسات العلمية التي تجسدها اللقاءات والمنتديات والتظاهرات الفنية والثقاقية لا تتكون بمعزل عن انخراط الفاعل السياسي المسؤول عن حيوية هذا الفعل وفاعليته. فهو المبادر بطرح البرامج وتوفير كل الشروط المادية والمعنوية لانبعاث الثقافة وحل اشكالياتها. ولعل أبسط هذه المبادرات هو استعادة أدوار دار الثقافة، وحفز المبادرة، وتثمين أنشطة دار الشباب، واسترجاع مشروع مكتبة البلدية التي كانت تستجيب لحاجات الساكنة. وذلك بوصفها فضاءات تضمن للشباب متنفسا ثقافيا، لأنها تلامس عصب الوعي الراكد وتقف لكافة أنواع اللاوعي بالمرصاد . 

إن الفعل الثقافي هو الشرط الحيوي المفقود في حلقة التنمية بمدينة خميس الزمامرة، وهي تنمية تظل مشلولة إلى أجل غير مسمى، إذ يشكل شريان النهضة الحقيقية. وهي حقيقة أصبح من العبث تجاهلها في مدينة لا تخلو من مثقفين وفاعلين، ينتظرون الحفز المناسب للمساهمة في استرجاع ما ضاع ويضيع من تنمية مسلوبة .                  

                                                                        خميس الزمامرة في 15/12/2020

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


+ 56 = 63