الفاعل المحلي و سؤال التنمية .. “المكتب الشريف للفوسفاط نموذجا”

بقلم – عزدين سعيد

يمكن القول أن المكتب الوطني الشريف للفوسفاط شكل في لحظات مختلفة من تاريخ المغرب، ركيزة التنمية بشكل أساسي باعتباره أهم الثروات القومية للدولة المغربية، وبعد اختيار الدولة تحرير المؤسسات العمومية، تمت خوصصة العديد من القطاعات التي كانت خدماتها حكرا على الدولة فيما مضى، وانخرط المغرب بشكل واعي في مسلسل التنمية المستديمة، عبر تنزيل مبدأ الحكامة القاضي ببلورة تنمية محلية، تتجاوز المركزية المجحفة التي اتضح من خلال فشل البرامج التنموية السابقة، أنها تهمش العديد من المناطق عبر تقسيم مجحف للمجال، ولأجل ذلك ثم تنزيل برنامج التدبير الأفقي الذي يستحضر الفاعل المحلي و القطاع الخاص كشريك استراتيجي،وعلى هذا  المنوال اعتبر المكتب الوطني الشريف شريك رسمي في تحقيق برنامج التنمية المحلية، ويتضح ذلك من خلال انفتاحه على المجالات الأخرى عبر مساهمته في بناء مجالات خضراء ومدارس عمومية نموذجية وملاعب القرب، كما أنه يعتبر شريك استراتيجي للجماعات المحلية في تحقيق برامجها التنموية، وعلى هذا المنوال يأتي إقبالنا على تعميق البحث من خلال الماجستر الذي يحمل اسم ماستر سوسيولوجيا التنمية المحلية بجامعة ابن طفيل القنيطرة، فهم سياقات التنمية المحلية بالمجالات المغربية وكيف يمكن للمكتب الوطني الشريف للفوسفاط أن يكون شريك أساسي في تحقيق البرامج التنموية، خاصة في ظل دعوة رسمية من جلالة الملك محمد السادس نصره الله

كما أن الباحثين في مجال التنمية اليوم يطرحون سؤال الاستثمار في المحلي لخلق التنمية، والاستثمار في المكتسبات التاريخية للدولة المغربية، مما أعلى اليوم من أهمية المحلي مع مراعات لما هو كوني، وأصبح الحديث اليوم عن المحلي وضرورة الاستثمار فيه كشرط تنموي.

وعلى منوال ذلك يثيرنا البحث في هذا الموضوع بشكل دقيق وعلمي، وللتحليل وإمكانية العرض وسبر أغوار الموضوع نطرح التساؤلات التالية التي سنصوغها في ورقات أولية:

ماهي سياقات الحديث عن التنمية المحلية بالمغرب؟

ماهي مقومات وأبعاد التنمية المحلية؟

الفاعل المحلي وسؤال التنمية المحلية “المكتب الشريف للفوسفاط الجرف الأصفر نموذجا”؟

سياقات الحديث عن التنمية المحلية بالمغرب


  في الحقيقة لم يظهر الاهتمام بقضايا التنمية إلا في أواخر العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، إلا أن المنظور الشمولي هو الذي ظل يغلب عليها دون أي ترابط  بين عناصرها، فكانت ذات نظرة شمولية عامة وفقط، لكن مع فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وطبيعة التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، تصدرت المسألة التنموية كقضية مركزية .

 وإذا كانت فترتي الستينات والسبعينات تميزت بهاجس الانخراط في ركب التنمية، ولم تعد هذه الأخيرة مجرد آلية لتحقيق صورة معينة للمجتمع، بل أصبحت هدفمركزي انتقلت موجاته بشكل متسارع حتى بالنسبة لدول العالم الثالث، فإنه منذ الثمانينات أصبحت الأضواء تسلط على التنمية من طرف الباحثين وبدأت تتصدر اهتمامات المسؤولين نظرا للفوارق المجالية الصارخة، وخاصة ثنائية المركز و الهامش التي اعتبرت من أكبر الاختلالات المجالية التي تعاني منها الدول، ذلك أن التنمية أصبحت ذات معنى مجالي، لا تتحقق إلا بالنسبة للجماعات التي تتوفر على مؤهلات قادرة على استقطاب المشاريع الإنمائية وحيث تكون فرص الاستثمار والربح أسرع، بالإضافة إلى تركز الموارد في مجالات دون غيرها.

  بالإضافة إلى ذلك، أدت التقلبات الجيوسياسية لعقد الثمانينات(انهيار جدار برلين) وبالتالي سيطرة المعسكر الرأسمالي على التوجه التنموي إلى مراجعات عديدةلنموذج التنمية بارتباطه مع التغير الحاصل على مستوى المعرفة التنموية وتوجهاتها، حيث ركز الباحثون على ضرورة تجاوز التنمية التقليدية ومعالجة التنمية من زاوية دينامية مع التعمق في خصائص الظاهرة انطلاقا من حالة كل مجتمع من مجتمعات العالم الثالث على حدة  مما يعني ضرورة الانطلاق من الخصائص المحلية في كل عملية تنموية.

إن هذا التصور يرجعه البعض إلى رد فعل الخصوصية القومية، التي أعلنت الثورة المعلوماتية الثالثة عنانهيارها، والإعلاء من شأن الكوني على حساب المحلي مما يعني تنميط صورة التنمية كمشروع إنساني بمقومات مختلفة بالنسبة لكل مجتمع، وقد شكل هذا التصور نقلة نوعية على صعيد التصورات التنموية، ذلك أن التنمية لم تعد تملى من الأعلى أو من الخارج، بل أصبحت عملية قاعدية تستلزم مشاركة فعلية للسكان كتعبير عن الحياة الديموقراطية. لم يعد إذن مفهوم التنمية من الأعلى مستساغا ولا ومقبولا، ولم تعد للدولة وسائل الاحتفاظ بالاحتكار.

في هذا الاتجاه، تم العمل باللامركزية وتحميل المسؤولية للجماعات المحلية خاصة وأن النظريات الاقتصادية الحديثة أصبحت تأخذ بعين الاعتبار الإطار الاقتصادي المحلي كعنصر أساسي في التحليل الاقتصادي، وانطلق الحديث عن الاستثمار التنموي بشكل محليلبناء مشروع يستجيب للخصوصية الاجتماعية.

  في سياقاته الكبرى ارتبط الأمر أيضا بالتحولات العالمية، والتي تجلت في بزوغ وعي جديد وقيم جديدة تتمحور حول الديموقراطية وحقوق الإنسان، الحرية، حقوق الجماعات والأقليات، والتي أدت إلى أفول بعض القيم التقليدية كالدوام والتوازن ومركزية السلطة، كما أن العولمة الثالثة أعلنت موت الدولة وبالتالي التساؤل حول مركزية السلطة التدبيرية، ارتبط كذلك، بالأزمة الاقتصادية والتي تمثلت في خضوع المغرب لسياسة التقويم الهيكلي مما أدى إلى تقلص الموارد العمومية وتزايد الطلب على الاقتصاد الاجتماعي وهذا ما أصبح جليا في كل الخطابات الرسمية وقوانين المالية.


 ظهر بالإضافة إلى ذلك  الوعي بضرورة فسح المجال لمشاركة المجتمع المدني بارتباطه مع التطور الحاصل على مستوى وظيفة الدولة في ظل سياسة التقويم الهيكلي، خاصة بعد عجزها عن إيجاد مساعدة ممركزة ومعممة وأجوبة فعالة للمشاكل الاجتماعية، حيث وجدت الدولة نفسها مجبرة لنقل بعض صلاحياتها من المركز نحو الهامش، إنه قدوم اللامركزية الذي تزامن مع أزمة الدولة، وفي هذا السياق ستشكل البنيات المحلية والتحت- دولتية إطارا ملائما لتفويض بعض الوظائف خارج هياكل الدولة، وبالتالي سيصبح المحلي بديلا أحيانا عن غياب الدولة، ومن هنا يمكن فهم خلفيات التقسيم الترابي الجديد.

فالجدل القائم اليوم حول شعار « اللادولة أو اقل من الدولة »، أي مؤسسات عمومية أقل، وبالتالي تحويلات أكثر للقطاع الخاص(التدبير المفوض) يبدو أنه يفتقد إلى منطق عقلاني ويتجاهل خصوصيات الدول المتخلفة، فالمغرب وفي ظل عولمة متسارعة محتاج أكثر إلى الدولة، أو إلى ضرورة مواكبة القطاع الخاص لتجاوز النظرة الثقنية لتدخلاته التنموية في المجال وصبر أغوار مقومات التنمية المحلية كمشروع حقيقي.”

ارتبط الحديث عن مفهوم التنمية المحلية بالمغرب كذلك بمفهوم الحكامة ويأتي هذا السياق من خلال دستور 2011 بعد الاحتجاجات التي عرفها الشارع المغربي في ما سمي بأحداث 20 فبراير، واعتبر هذا الحدث، كاشفا عن سوء تدبير لقطاعات الدولة، في سياق مركزية مجحفة كرست الحيف والتهميش على مناطق معينة بالمغرب وخاصة تلك البعيدة عن المركز، وبالتالي جاء دستور المملكة لتدارك الأمر ومقاربة المسألة التدبيرية بنصوص قانونية أساسية يعترف بها الدستور أولا قبل كل شيء، ووجهت الدعوة لاستدعاء الحكامة كصيغة للتدبير الفعال في مؤسسات الدولة، والاعتراف بها كمدخل لبوادر الإصلاح ووضع مخططات التنمية بالمغرب، وتجذر الإشارة أن التقسيم الجهوي أعطى للجهات صلاحيات موسعة في تدبير مصالحها الخاصة عبر وصاية الدولة طبعا، ونص على تدبير تتشارك فيه ثلاث جهات على الأقل من قطاع خاص ومؤسسات الدولة الرسمية، والمجتمع المدني،الذي يعبر بشكل مباشر عن حاجيات الاندماج المجالي الذي يعايشه وذلك في سياق توازنات مع البنية الثقافية، لكن الأمر في الحقيقة لازال يواجه العديد من التحديات خاصة على مستوى التنزيل الموضوعي للنص القانوني الذي يتضمن هذه المقتضيات التي تحدثنا عنها، وعدم وضوح الدور والرأي أمام الشركاء في العملية التدبيرية التي تترجم بشكل مباشر الحاجة لطرح سؤال الفاعل المحلي. 

إنه السؤال الذي نطرحه باستمرار بالمجتمع المغربي، هل نملك فاعل محلي؟ بل أي فاعل نحتاج أصلا، وهو ما أسميته قبلا بغياب وضوح الدور، فهل نحقق الاستجابة لفهمنا البسيط ونحدد أهم مواصفات هذا الفاعل، في الفرد المكون علميا نظريا وميدانيا، حامل للمعارف الأساسية المنوطة بسؤال التدبير، والمتمرس ميدانيا عبر التكوين الرصين.

في حقيقة الأمر حتى سياقات الحديث عن المجمع المدني بالمغرب تحتاج لغربلة موضوعية، تستحضر النص الدستوري في المجال، وخاصة منها الجمعيات النشيطة على الأقل، والعمل على هيكلة هذا الحقل عبر تكوينات رصينة تضعهم في الصورة المرجوة اليوم من أجل مغرب الغد، وتمكنهم من منطقيات اشتغال رصينة تبعدهم عن كل الحسابات السياسوية الضيقة، التي تشكل دائما العائق في التنمية.

أي حكامة في ساياسات التدبير بالمدن المغربية؟

تعني سياسة المدينة

“انخراط الدولة بثقلها في تخطيط وتدبير المدينة وتحديد ماهيتها وحدودها بغية توفير إطار عيش ملائم للساكنة الحضرية يكفل لها حقها في المدينة، بالإضافة إلى اعتماد مقاربة أفقية، في إطار رؤية شمولية مندمجة وتعاقدية تعتمد على مبادئ الحكامة الجيدة والتشاور، يتدخل في صنعها مختلف الفرقاء السياسيين والتقنيين المتواجدين في نسيج حضري معين، من دولة وجماعات ترابية ومجتمع مدني وقطاع خاص، من أجل التوافق حول مشروع حضري، يجعل من المدينة فضاء لإنتاج الثروة وتحقيق النمو، وللتضامن الاجتماعي والتوازن بين مختلف الفئات الاجتماعية من خلال العدالة الاجتماعية وبين الأحياء المكونة لهذه المدن عبر الاهتمام بالمرافق والخدمات العمومية والتنقلات الحضرية. “

أعطى التطور السريع لنسب التمدين التي اخترقت المدن المغربية منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم، والمتمثل في النمو الاقتصادي والسكاني وارتفاع كثافة المدن، إلى بروز العديد من التحديات والمشكلات،لامست الأصعدة المجالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.وعلى مستوى الاندماج الترابي، ارتفع النمو السكاني الداخلي للمدن، عبرالتدفقالهائل لسكان البوادي نحو هذه المدن منذ الاستعمار الفرنسي، وذلك إن صح القول كان مخططا لها من طرف المعمر الفرنسي، من خلال تقسيمات مجالية يسهل ضبطها، إلى بروز أنواع جديدة من السكن، كالسكن العشوائي أو الغير اللائق، ومدن الصفيح.

أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أدى ضعف البنيات التحتية من طرق ومناطق صناعية وغيرها إلى تراجع الاقتصاد المهيكل لفائدة الاقتصاد غير المهيكل، بالإضافة إلى الاتجاه إلى الاستثمار في الفلاحة  المعيشية التي اتخذتها الدولة خيارا استراتجي، مما أصبح يحتم على القائمين على المدن تطوير رؤى جديدة للتنمية تسمح بانبثاق مشاريع للاقتصاد المحلي، تمكن من استقطاب الاستثمار وإنتاج الثروة.

وذلك في سياق مفاده أن الاهتمام بالمجالات القروية وهيكلتها، سيكون سبيل للحد من الهجرة الداخلية وضبط نسب التمدين التي باتت في ارتفاع مستمر،فيما بالإضافة إلى تحديات الجانب الاجتماعي، المتمثلة في ظهور أحزمة الفقر والبطالة والجريمة والأمية والاقتصاد غير المهيكل. وبالتالي أصبحت هذه الأحزمة تعاني الهشاشة والفقر والاقصاء الاجتماعي، مما يهدد بانفجارات اجتماعية، وتحديات حقيقية أما المدينة المغربية.

لمواجهة هذه التحديات والمشكلات، بادرت السلطات العمومية إلى تبني سياسات عمومية لفائدة الطبقات الهشة والفقيرة، تهدف إلى محاربة الهشاشة وتطوير الاقتصاد الاجتماعي، وتوفير السكن، وتقديم خدمات الصحة والتعليم والكهربة والماء الشروب وغيرها من الخدمات الاجتماعية. وقد تميزت هذه السياسات في مرحلة أولى باعتماد مقاربات قطاعية إضافة إلى برامج ذات صبغة وطنية كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كما تم على صعيد الجماعات الترابية خلق المجموعات الحضرية لتتولى تجميع وتنسيق الجهود المبذولة في تدبير وتنمية المدن، ثم تم تعويضها فيما بعد بنظام وحدة المدينة الذي ساهم في إضفاء صبغة وحدوية على المدن الكبرى المغربية وتمكين أجهزتها التقريرية من تتبع ومراقبة تراب المدن وتتبع المشاريع.

غير أن هذه المقاربات، وإن أدت إلى تحقيق بعض النتائج الايجابية، فقد افتقرت إلى التنسيق والتكامل، وبالتالي افتقدت إلى الفعالية والنجاعة الكفيلة بالقضاء على الفقر والتهميش والهشاشة والبطالة وغيرها من الآفات الاجتماعية والاقتصادية والمجالية والبيئية التي تعاني منها جل المدن المغربية خاصة وأنها ظلت باستمرار تسائل وجود الفاعل المحلي والتدبير الحكماتي في نسج هذه المخططات، والقطع مع البنيات التقليدية السابقة والتي تظل راسخة بقوة حتى في المجال

إن إعداد التراب والتنمية والتهيئة… هي مفاهيم تعني ضرورة التنظيم والتدبير، وذلك حسب الإمكانات المتاحة في المجتمع بالتنسيق مع المعطيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، تهدف إلى إزالة الفروقات الاجتماعية وإلى تحقيق العدالة في عملية توزيع الموارد والخيرات واستثمارها في تحقيق التنمية، وهذا هو عمق وجوهر التدبير الحكماتي، لذلك لا يمكن أن نتوقع نجاح إصلاح وتغيير إيجابي لا ينطلق من عمق هذه المحددات فالتاريخ يحكم أن لا نجاح لإصلاح لا يستنبت في المجتمع.

وسنحاول في الجزء الثاني من هذه الورقة التفصيل في الحديث عن مقومات التنمية المحلية

1 Comment

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


49 + = 56