بقلم : يونس التايب
بالتأكيد ليس سهلا على من لا يعرف من أين أتى، و من هم أجداده، أن يحدد إلى أين يجب أن يسير، و وفق أي منطق عليه أن يتقدم إلى الأمام. كما أن من لا يضع سيره هذا، ضمن امتداد تاريخي يستحضر الماضي برجالاته و قيمه المثلى وكامل المجال الجغرافي لوطنه، سيصعب عليه التمييز بين ما ينهال عليه من “قيم” مستحدثة، و التفريق بين “الناس” و “الناس” حتى يعرف الغث من السمين، و حتى يدرك الصادق من الكاذب، و حتى يعرف الطيب من الخبيث، و حتى يقدر حق قدره قيمة تراب الوطن و قدسية كل رموزه.
كما أن من لا يعرف كم صبر السابقون، على اختلاف مشاربهم و انتماءاتهم، وكم تحملوا من عذابات و تضييق و تهميش، وهم صامدون مؤمنون بمشروعية قضاياهم و بضرورة النضال في سبيلها، لن يقدر على تحمل و لو جزء بسيط مما تحملوه في سبيل قيم مثلى لم تعد مما يحترمه كثير من الناس في هذا الزمان.
لذلك أجدني في كل كتاباتي، ميالا للتذكير بأهمية البعد التاريخي لانتمائنا المشترك، بكل تجلياته و رموزه و أبعاده الثقافية و الاجتماعية و الفكرية و السياسية، باعتبار تاريخ الأمة المغربية هو الكفيل وحده بتزويدنا بما نحتاجه من معرفة دقيقة عن مقومات هويتنا الوطنية. و لأن المجهود المطلوب ضخم، ويستدعي أمورا كثيرة غير قائمة كلها الآن، أكتفي بالدعوة إلى الغوص على الأقل في ثنايا تاريخنا الحديث ابتداء من بدايات القرن العشرين، و أساسا ملاحم مرحلة مقاومة الاستعمار، و ما تلاها بعد الاستقلال، لأن فيها من الكنوز ما لا يقدر قيمته كثير من مواطنينا. بل أكاد أجزم أن أغلبية من الناس ليس لهم معرفة حتى بالحد الأدنى المطلوب من معطيات التاريخ الوطني، الشخوص و الأحداث و الملاحم، و بالتالي يصعب أن نتحدث عن وجود معرفة حقيقية و واعية لديهم، بماهية الذات الجماعية و مقوماتها الهوياتية المتعددة الروافد.
لذلك، من الواجب علينا جميعا كمواطنين، سواء من الجيل المخضرم أو الجيل الجديد، و خصوصا الشباب المثقف والأطر و الكفاءات الواعية و التواقة لمستقبل يكون فيه وطننا أقوى و يصبح فيه واقعنا أفضل، أن نجدد الغوص في ذاك الجزء من تاريخ بلدنا، لنتعرف أكثر على سير رموز طبعت التاريخ المغربي، وتميزت بأنفتها و عزتها، و برسوخ قناعاتها الفكرية و السياسية والوطنية رغم اختلاف منطلقاتها الإيديولوجية و الفكرية. رموز حقيقية، و لو لم نتفق مع كامل اختياراتها و مواقفها، لكن المتفق بشأنه هو أن لا يطعن أحد في صفاء سريرتها، و في بعد نظرها، و في سعيها لإعلاء قيم الخير و التنمية والمساواة بين كل أبناء الوطن.
حينذاك سنستحضر معنى أن نكون نحن هنا الآن، و قد مر على تراب هذه الأرض الغالية زعماء و رجالات دولة تفاعلوا بينهم قبل الاستقلال و بعده، من أمثال جلالة السلطان المقاوم محمد الخامس، و جلالة الملك الباني الحسن الثاني، و الرئيس الشهم عبد الله ابراهيم، و الزعيم الوطني علال الفاسي، والمناضل الأممي الكبير المهدي بن بركة، و الشهيد عمر بن جلون، والسي عبد الرحيم بوعبيد، و مولاي امحمد بوستة، و السي علي يعتة، و السي امبارك البكاي، و الفقيه عبد الله كنون، و العلامة المختار السوسي، و المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، و الأستاذ عبد الخالق الطريس، و الفقيه العلامة محمد بلعربي العلوي، و الأستاذ محمد حسن الوزاني، و الدكتور عبد الكريم الخطيب ؛ و الشهداء المقاومون علال بن عبد الله، و محمد الزرقطوني، و موحا أوحمو الزياني، والحاج حمو الورزازي، و محمد سلام أمزيان، وعباس المساعدي و غيرهم كثير و كثير، لا يسع المقام أن أذكر الجميع هنا.
كما علينا كمواطنين و كمهتمين بالسياسة و الفكر و بتفاعلات تدبير الشأن العام الوطني في كل أبعاده، ألا ننسى من كانوا عبر التاريخ، رموزا ومنارات مغربية أصيلة في الفكر و مختلف العلوم، و في الفقه و علوم الدين، و في الفلسفة و الثقافة و الأدب والفن.
كل هؤلاء، و غيرهم كثير، آمنوا أن استحقاق الانتماء لأرض المغرب، و تجسيد تمغربيت الحقة، ليس بالأمر الهين. بل هو شرف كبير لا يمكن أن يناله إلا من التزم البذل و العطاء المخلص للوطن، و لهويته و ثقافته، و لثوابته و تاريخه، و دافع عن استقلال الوطن، و ناضل بصدق من أجل كرامة المواطنين و حقهم في العدل و المساواة و الكرامة و التنمية، و دافع عن سيادة الدولة الوطنية، و عن تعزيز ثوابت الأمة المغربية. هؤلاء سيذكره التاريخ لأنهم نساء و رجال آمنوا أن هذه الأرض تستحق الكثير من التضحيات لتعلو راية المغرب، أولا، ويتحرر الشعب من أغلال التخلف و الاستعمار والجهل و الفقر والبؤس.
أما من أبانت التجربة أنهم خصصوا كل الجهد ل “نضال الصالونات”، و نشر “الأوهام”، أو انشغلوا بالمغانم بدون وجه حق، و أضاعوا حقوق الناس و عبثوا بمسؤولياتهم، و لم يصونوا الثقة و لا جسدوا الأمل الذي عقد عليهم، فهم ليسوا أهلا ليذكرهم التاريخ و لا الناس سيذكرونهم، مهما علو في الأرض و استعلوا، لأن حقيقة رداءة مساهماتهم ستعلو في النهاية و لن يعلى عليها.
لذلك، و نحن في هذه الأيام الثلاثة المباركة لملحمة الاستقلال المجيد للمملكة المغربية، علينا أن نقف بإجلال لأرواح من بفضل نضالاتهم نحن هنا أحرار مستقلون. و علينا أن نكرم ذكراهم، و نساهم في أن يظلوا أحياء في وجدان المواطنين، و ندعو بالرحمة لأرواح كل الزعماء من أبناء المغرب المخلصين الذين قضوا نحبهم، و نتضرع إلى العلي القدير أن يبارك في صحة و عمر من لا زالوا أحياء ينتظرون أجلهم المحتوم، و ما بدلوا تبديلا. و علينا أن نبقى على العهد و الوفاء لميثاق الانتماء للوطن منشغلين بأن ينال أبناءه كل المنى و يعلو شأنهم، و يتعزز أمنهم وسلامتهم و حفظهم من كل سوء، و ينالوا نصيبهم من الفرح و العيش الكريم كما يستحقون ذلك و أكثر.
قم بكتابة اول تعليق