بقلم – المريزق المصطفى*
لازلت أتذكر الخطاب الملكي الذي قدمه الملك محمد السادس يوم 30 يوليوز 2014 بمناسبة عيد العرش الـ 15، وما أحدثه من ضجة واسعة بين المغاربة حول موضوع “الثروة الوطنية”، والذي دعا فيه ملك البلاد، لأول مرة منذ اعتلائه العرش، بل لأول مرة في تاريخ المغرب، إلى “ضرورة تسليط الضوء على قيمة رأس المال غير المادي للمغرب”، وهو الخطاب الذي شدد فيه على ضرورة الاستناد عليه كمعيار أساسي لوضع السياسات العامة لكي يستفيد المغاربة من ثرواتهم.
وما زلت أتذر كذلك، أن العاهل المغربي دعا في ذات الخطاب إلى إجراء دراسة لتقدير القيمة الإجمالية لثروة المغرب من بداية سنة 1999 (سنة توليه الحكم) إلى نهاية سنة 2013.
ونحن اليوم في سنة 2019، هل أجريت هذه الدراسة بالشكل الذي يجب وكما أرادها ملك البلاد؟
ولا أزال أستحضر مدى التأثير الذي تركه في نفسي ذلك الخطاب حول الثروة، والحق في استفادة كل المغربيات والمغاربة من كل ثروات وخيرات بلادهم، وهو حق مشروع يكفله دستور المملكة المغربية، وهو كذلك في انسجام تام مع المعاهدات والاتفاقات الدولية.
كانت قد مرت 5 سنوات على رجوعي من فرنسا/ منفاي الاختياري، الذي دام ما يقرب 10 سنوات، حينما أنصت وتتبعت بإمعان لخطاب “الحق في الثروة الوطنية”. وهو الخطاب الذي حمس العديد من الفاعلين من مشارب مختلفة، واعتبرته شخصيا مقدمة لفتح نقاش جدي ومسؤول حول “الفضاء الأخضر” (القطاع الغابوي والفلاحي والأراضي السلالية)، و “الفضاء الأزرق” (قطاع الصيد البحري) و”الفضاء الرمادي والبرونزي والذهبي (قطاع المعادن)، بالإضافة الى قطاعات أخرى تصنع الثروة المغربية بامتياز.
فانغمرت في تتبع ما جاء في خطاب الملك ثلاثة سنوات، تعرفت من خلالها على موسوعات عديدة تخص الحق في الثروة الوطنية والبحث عن كيفية تفعيل مضمونه، ليس للاستشهاد به والتعامل معه بشكل انتهازي لقضاء المآرب، بل من أجل مصالحة حقيقية طبقا للمعايير الدولية الأكثر صرامة.
وبالرغم من قساوة هذا الاختيار الجديد، كانت ولا زالت هناك متعة زودتني بمعارف غزيرة، تناسبت مع الجهد الذي بذلته صحبة ثلة من بنات وأبناء الوطن البسطاء الطيبين، فبقيت إلى الآن متشبثا بالحبل بهدوء، وبالأمل في ولادة مغرب المستقبل، مغرب أفضل يتسع للجميع.
في الواقع، لم يكن سؤال “الثروة الوطنية” في خطاب 30 يوليوز 2014 أكثر معنى من الخطب الأخرى التي أرخت لمحطات تاريخية مختلفة، وعلى رأسها خطاب الملك بمناسبة انتهاء مهمة هيئة الانصاف والمصالحة وتقديم الدراسة حول التنمية البشرية بالمغرب (خطاب 6 يناير 2005)؛ بل كان امتدادا لمسار التعبئة والثقة والأمل، ذلك المسار الذي بدأ مع “الإنصاف والمصالحة والعدالة الانتقالية” وما ترتب عنه من توصيات شملت مواصلة التحريات حول الحالات العالقة، واستكمال معالجة جبر الضرر الفردي، وبرامج جبر الضرر الجماعي، وتدابير حفظ الذاكرة والأرشيف والتاريخ، وإرساء ضمانات عدم تكرار الانتهاكات.
لقد شهدت هذه السنوات تناميا ملحوظا لأشكال وصيغ التقدم الديمقراطي ببلادنا، وعناء البحث والتنقيب في رفوف مكتبات التاريخ والجغرافية وحقوق الانسان والتنمية البشرية بكل أصنافها وعنوانها. ففي أكثر من مناسبة تزاحمنا على المعارض والندوات والمؤتمرات، هروبا من برودة وقساوة الماضي، باحثين عن الدفء الذي يغمر بضوعه النفاد، وكلنا أمل في رمز المصالحة المغربية التي ألهمت ميثاق الحقوق والحريات الذي يمثله اليوم دستور المملكة (دستور 2011). إلا أن هذا المسار ظل عصي على الادراك، وأن مخرجاته ظلت تحتاج لدفع يساوي وزنها بين أزمنة الإصلاح المغربي المتعاقبة منذ مطلع العهد الجديد: من ميلاد المجلس الوطني لحقوق الانسان كمؤسسة وطنية للحماية والنهوض بحقوق الانسان في المغرب سنة 2011 (والتي حلت محل المجلس الاستشاري لحقوق الانسان الذي أنشأ سنة 1990)، إلى “خطاب الثروة” سنة 2014، مرورا بإقرار التنوع الإثنو- ثقافي بمناسبة خطاب أجدير سنة 2001 وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 2004، و إحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا سنة 2002)، وإصلاح مدونة الأسرة (2004)، وخلق هيئة الانصاف والمصالحة (2004-2005).
ومنذ خطاب العرش الـ 15، والمغرب ينتظر من يسلط الضوء على هذا المسار الإنساني والحقوقي والاجتماعي، ومن ينقد قيمة رأس ماله غير المادي كذلك، واعتباره من المعايير الأساسية في وضع السياسات العامة، ليتمكن المغاربة من الاستفادة منها.
لكن ورغم ما حصل ويحصل، ليس من المهم اليوم أن نبكي على ما ضاع منا، ولكن الذين قرأوا هذه المرحلة ودرسوها بعد أن آلت إلى ما آلت إليه، يرون الآن كثيرا من الجرأة، التي جعلتنا نخرج كما قال عبد القادر الشاوي ذات يوم عن “الأوفاق الضمنية التي كانت تجعل الحياة السياسية والجماعية في قطر مرسوم لا نخرج عنه، تعاش على قدر معين من الوئام والسأم”.
إن الملك أعرب بنفسه عن أسفه بذات المناسبة (الذكرى ال 15) ل “حدة الفوارق الاجتماعية” بين المغاربة، متعهدا بالسعي إلى “تعميم استفادة جميع المغاربة من ثروات وطنهم”، وهو ما يدفعنا اليوم لاستحضار ما ضاع منا من فرص، من دون عدم الاعتراف بما حققته بلادنا من تقدم كبير في مختلف المجالات، وفي مقدمتها التطور الديمقراطي، الذي يجسده دستور 2011، ومنظومة الحقوق والحريات، والإقدام على ورش مغرب الجهات. لكن ورغم ذلك يظل اليوم المشهد الاجتماعي بئيسا ومتأزما، لأن الأثر الملموس ل “خطاب الثروة”، ولكل الأوراش الكبرى، لم يجد النخب المؤهلة لتفعيلها.
لقد كبرنا وكبر معنا السؤال حول نخب المركز، وخاصة أولئك الذين قادوا المجتمع المدني لأزيد من 20 سنة، كوسيط وكشريك للدولة ولمؤسساتها وللمنظمات الأجنبية في العديد من الأوراش الشبابية والنسائية والاجتماعية. ففي الوقت الذي نطالب فيه اليوم من الحكومات المتعاقبة ومن يمثلها من السياسيين أن يقدموا لنا حصيلة إنجازاتهم وإخفاقاتهم وعجزهم ومآل التنمية في زمنهم، نطالب كذلك من قادة المجتمع المدني التاريخيين أن يقدموا للمغاربة حصيلتهم، لتمكين الجميع من الحق في المعلومة.
إن مسلسل الإصلاحات لا يزال مفتوحا، وكل الأوراش لازالت متعثرة وقيد الإعمال (باستثناء أوراش الملك الكبرى: مشروع ميناء طنجة المتوسط، مشروع نور للطاقة الشمسية، مشروع التي جي في، ومشروع الجرف الأصفر، ومشروع الترامواي، إلخ)، وما نعيشه اليوم من تردي على مستوى القيم، ومن تفسخ أخلاقي واجتماعي، ومن عنف وجريمة وانحراف، ونفور من المؤسسات، وتيهان على مستوى الحريات، يسائل نخبة المجتمع المدني قبل غيرها، تلك النخبة التي تربعت على عرش المجتمع المدني المغربي لعقود طويلة من الزمن، ومثلته في أكبر التظاهرات والمظاهرات والمؤتمرات والندوات الدولية والعالمية.
إننا نحتاج لوقفة تأملية ولحوار صريح بين الفاعلين السياسيين والمدنيين والنقابيين، حوار مجتمعي Débat sociétal
يمكننا من فهم ما جرى وما يجري من حولنا، وتقييم الوضع، وتحديد أوجه القصور وسقف التطلعات لاسترجاع الثقة والأمل في مغرب المستقبل، عبر تخطي الأزمة الاجتماعية الخانقة التي تجتازها بلادنا.
إن احتكاكنا بالواقع، وزيارتنا لما يزيد عن 50 منطقة بالمغرب، ووقوفنا على الفراغ القاتل في مناطق العالم القروي وسكان الجبال، يجعلنا نطالب بحوار جاد ومسؤول ليس فقط مع المسؤولين الإداريين والترابيين، بل كذلك مع الفاعلين المدنيين المركزيين الذين مارسوا الوساطة بين الشعب ومؤسساته من جهة، وبين الوطن والعديد من المنظمات الدولية التي مكنت العديد من الأنسجة المدنية من إمكانات باهظة في العديد من المناسبات، باسم الحوار المدني وقيم التسامح واحترام التعددية الثقافية ومرجعياتها ودعامتها المادية واللامادية.
ومعلوم أن هذا الواقع المر الذي وقفنا عليه في عشرات المناطق، والذي ذهب ضحيته آلاف الشباب والنساء، يستحق اليوم النقد والنقاش والحوار المسؤول أكثر من أي وقت مضى، وليس الإدانة والسب والشتم والتكفير. فلا يخفى اليوم على أحد أن مغرب الهامش لم تصله بعد نخب المجتمع المدني المركزي منذ عقود طويلة من الزمن، كما لا يخفى على أحد أن التجارب المضيئة في هذه المناطق كانت بعرق الجبين وبالإمكانات الذاتية المحدودة، المبنية على قيم التطوع والتضامن والتآزر الاجتماعي.
أخيرا، في انتظار التفاعل مع مساهمتنا هذه، لن نلوم الدهماء إذا تكلمت، بل نلوم من احتكر الكلام والرأي، ومن توفرت لهم مساحات خاصة من الكتابة والكلام، مساحات يبنيها المال والسلطة، نخبة مركزية تنتج لنفسها وعوام مغرب الهامش تستهلك؛ سنواصل بهدوء التفكير في ابتكار آليات جديدة، تشاركية ومندمجة مع الجميع، من أجل تفعيل “خطاب الثروة الوطنية ” وتحقيق العدالة المجالية بين الجهات، وتوفير البنيات الأساسية الأربعة: التعليم، الصحة، الشكل والسكن.
إن حصيلة المغرب منذ ميلاد العهد الجديد، تراث جماعي وجزء من ذاكرتنا الجماعية، وخزان من مخازن الرأسمال المادي واللامادي، وعلينا الحفاظ عليه، والاعتراف بنواقصه من دون مركب نقص، من أجل الإسراع بوتيرته وبتقوية النسيج المدني في العالم القروي وسكان الجبال، والاعتناء بالشباب المغربي عبر ربوع الوطن، والنهوض بآليات الحماية في مجال حقوق الإنسان ومسار النضال التطوعي، وفي مجال حرية التعبير والرأي والصحافة، وإشراك المجتمع المدني الحقيقي والحركات الاجتماعية في أوراش التغيير، ونبذ مختلف أنواع العنف الاجتماعي والتعصب الديني أو العرقي، والاعتراف بالكفاءات والأطر أينما تواجدت، وتقوية دعائم كل ما يتسم به المجتمع المغربي من وحدة وتنوع ثقافي وحضاري، واعتبار الثقافة المدنية كفكر إنساني وكأسلوب حياة، مدخلا حقيقيا وضروريا للمصالحة الشاملة مع المجتمع، لأنها (الثقافة) تحولنا إلى بشر وترتقي بنا إلى المستوى الإنساني، بل أكثر من ذلك، هناك من يعتبر أنه من غير ثقافة المصالحة والصفح لن تكون لنا لغة نعبر بها عن أنفسنا، ف”نعم للصفح، لا للنسيان” (كما قال نيلسون مانديلا).
* أستاذ باحث في علم الاجتماع
الرئيس الناطق الرسمي لحركة قادمون وقادرون –مغرب المستقبل
عضو المجلس الوطني للمنظمة المغربية لحقوق الانسان
قم بكتابة اول تعليق