“اولاد بنيفّو” أو يوميات مُعالِج ببَرَكَة “سُلطان الجنّ”

بقلم – حسَن الرّحيبي

كأنّنا كنّا ننتظرُ قدومه كلّ صباح يوم الثلاثاء الباكر على متن بغله كبير الحجم . طويل القوائم . وقد استعدّ للطواف على دواوير وقرى القبيلة . لمدّة تتجاوز الأسبوع أو أكثر . في رحلات متوالية لا تميّز بين الفصول . بعد أن سوّق حصيلة الأسبوع الماضي من زرع وشمع وسمن ودواجن في سوق الإثنين .
لا زال “الشواري” فارغاً لأنه انطلق فقط من دوار اولاد بوزيد المجاور لخيمتنا بالصّديگات . هو القادم من دوار الدهاهجة . نسمع دعواته عن بعد ونحن لا زلنا نغطّ في نوم ما بعد غسق الفجر . لكن لا يلبث أن يقف أمام خيمتنا المُحاطة بنبات الصبّار الشّوكي بعد حين . ببابها العشوائي المشرع بدون موانع ولا سواقط حتى فنائها الواسع والمترّب . لنسمع عن قُرب نفس الدعوات التي تنشر السكينة والوقار وربما شيئاً من الرّهبة حين يتعلّق الأمر “بولد بنيفّو” الذي لا يمكن أن يُردّ له طلب . في وقت غاب المخزن من حياتنا ليبقى بنيفّو وحده هو سندنا النفسي وضامن مستقبلنا كما اعتقدت أمّي المسكينة . التي فقدت كل سند في الحياة بعد أن مات أبي منذ شهور قليلة . وأيضاً كما ظلّ يعتقد الأهالي بوجود سلطة المخزن التنفيذية والمباشرة . مع وجود سلطة خفية مُوازية أقوى يمارسها حاكم المنطقة الفعلي سيدي عبد العزيز بن يفّو . ينطلق الرجل الوقور بسرد لازمته التي حفظناها عن ظهر قلب . منذ سنوات عديدة . أي منذ مجيئنا غير المرغوب لهذه الحياة الشاقة. والتي تبعث سكينةً تقشعرّ لها الأبدان . لكن تتوق لها النفوس المفرغة من جذوة الأمل بل من إرادة الحياة نفسها :

آولاد بنيفّو
آلّلي يعفسوا ويسبّبوا
هاولاد بنيفّو
راه اللّي يضرّوا ظهرُو
واللّي يتغزّوا عليه رْكابيه
ويضروه عظامو
واللّي يطيّحوه لمَسلمين ..
هاولد بنيفّو جا حتى لگدّام المحلّ الحمدِ الله!

لا يتحرّك أحدٌ استجابةً لطلبه ودعواته الصّادقة وكأننا ننتظر المزيد منها . أو بالأحرىٰ خضع الجميع لسِحرها الرائع وتأثيرها المنوم hypnotique . ولمفعولها الميغناطيسي الساحر على النفوس . فدبّت ساريةً في الأوصال .. حين أصبحنا لا ننتظر شيئاً من المسؤولين . وكلّ آمالنا معلّقة على تدخلات سيدي عبد العزيز بنيفّو الرّهيبة والحاسمة .
يضيف إليها الرجل الوقور الذي عمل بالفعل على تقريب بَرَكة بنيفو من المواطنين ونقلها لنا حتى إلى أمام خيمتنا بئيسة المظهر وعُقر دارنا المدجّج بالأطفال والنساء . ولكن المليئة بكل أصناف الدواجن وألوانها واختلاف أصواتها ونبرات أنغامها وتغاريدها الجميلة .. وبأطفال صغار لا زالوا زُغب الحواصل مثل أبناء الحُطيئة في صحراء يباب قاحلة :
الله يعمّر الخَيْمة بالمال والرّجال !
في هذه اللّحظة الحاسمة تنطلق أمي المسكينة بسرعة فائقة للبحث عن إناء تضع فيه شيئاً من حبوب الدّرة التي نقتات منها . لكن لا يمكن اعتبارها ضائعة وبدون جدوى ما دامت ثمَناً واستجابةً لذلك الدّعاء النهائي الذي كانت تنتظره . والواعد بامتلاء خيمتنا بالمال الذي يفتقده فعلاً كل سكّان المغرب في أواسط الستينات القاسية . وبالرجال حين امتلأت خيمتنا فقط بالأطفال ونساء شرسات حين يتشاجرن يملأ صياحهن كلّ أرجاء المكان . ويردد صدى صخبهن العارم كدى وتلال الجوار ! لقد أصبح ولد بنيفّو جزءً من حياتنا يؤثّث آمال الجميع ويبثّ السكينة في نفوس يائسة . ينتقل الصوت الجهوري الوقور للخيمة المجاورة ليعيد عليها نفس الأسطوانة الساحرة . بعد أن يزّودنا بحصّتنا الأسبوعية من حنّة بنيفّو الشهيرة : تُرابُ طيني أحمر اعتقد العامة أنه احمرّ بفعل نحر بقرة بعد تشكّك البعض في قدراته الخارقة . لتقوم البقرة بعد الذبح وهي تنثر دمها المقدّس في أرجاء الكُدية المسحورة . الجميع ينتظر أن تصلَ برَكته لتتحقّق آماله الضّائعة . إلى أن يبلغ خيمة السّي المصطفى الذي جرّب علاج بنيفّو من مرض الصّرع épilepsie الذي أصابه منذ طفولته بسبب ارتفاع درجة حرارته وعدم وجود الوسائل الضرورية آنذاك لخفضها . حين صاحبتُه وأنا صغير جداً رُفقة مامّا ومّي الضاوية زوجة أبيه وهشّومة أخته من الأب . للمبيت في الضريح الذي يؤمه كل سكان المنطقة . وأيضاً من المدن والقرى البعيدة . بل حتّى من دول عربية لا زالَ يؤمن سكّانها بعلاج الأمراض النفسية /العضوية les maladies psychosomatiques أو الهيستيرية بواسطة الأولياء والرّقية وغيرها .. بتنا في الضريح في خريف سنة 1960 . ونزلنا للكهف المسحور أو بالأحرى “الحبس” الذي يعتقد الجميع أنه بدون قرار أو حدود . مع تلقّي صفعات قوية على الخد الأيمن . تتلوها أخرى على الخد الأيسر لا تقلّ شدةً وقوةً حتى تتداعى لها الجدران الباردة . بهدف طرد عفريت من الجن قادم من أقاصي السودان صحبة زوجته وأبنائه فيصادف في طريقه هذا البائس المسكين . ويستقر في زاوية من جسمه رافضاً الخروج من أعماق نفس ظلمته وتعدت عليه !
تبولتُ بشكل لاإرادي أثناء النوم في صحن الضّريح المزركش بقطَع زلّيج زاهية المنظر والألوان . خجلتُ كثيراً لتدنيس profaner/profanation مكان مقدس في عُرف العوامّ ..
ونحن عائدون مساء اليوم الموالي نركب حماراً باديَ العُروجة . يتقدمنا سي المصطفى المريض وتتبعنا المرأتان القويتان . سقط الرجل المريض فاقداً للوعي أمام شاحنة صفراء محمّلة بغبار المازير . لا زلت أتذكّرها إلى اليوم حينَ كادت تُهشّم رأسه ! ليلجأ بعد ذلك للعلاج العصري . ويتخلص من شر الصرع اللعين . وهو ما دفعه للشك في جدوى زيارة الأضرحة والتمسح بقبورهم أو حمل شيء يدل على تقديسهم . فدخل في صراع حقيقي مع الرجل الوقور حين أصبح يمنعه من ولوج الدوار الوراني مهدداً إياه ومردداً لازمته الشهيرة : بنيفو هو رول ؟ الله يلعن بوك و.. يقصد الطبيب الفرنسي Jean rault بآسفي الذي عالج مرضى عبدة والقرى المجاورة بطب عصري حديث . وبكفاءة عالية شهد له بها مريدوه وأعداؤه معاً. كما طبقت شهرته الآفاق إلى أن توفي في بداية السبعينات .
رغم ذلك لم تنل منا ثورة سي المصطفى العارمة على الأضرحة . والمشكّكة في جدوى الأولياء الذي رسّخه أكثر مكر الماريشال ليوطي lyautey حاكم الاستعمار الفرنسي بالمغرب . الذي بنى الأضرحة ونظّم المواسم والاحتفالات . ليكرّس المزيد من الجهل بترسيخ الخرافة والمعتقدات الزّائفة . واستمررنا في تقديم الولاء والقربان شمعاً وطيور دجاج أثناء الموسم . كما نقوم بالزيارة قبل إجراء الامتحانات المفصلية . خاصة الشهادة الابتدائية والبروڤي le brevet . رغم تعرضي لنصب أحدهم في سوق ثلاثاء سيدي بنّور الفسيح سنة 1967 . حين نادى عليّ وأنا طفل غرّ وساذج من داخل گيطون صغير . فيأخذ دواةً وقلماً من القصَب . وهو يتمتم بألغاز غير مفهومة ويخطّ جداول وطلاسم على ورقة صفراء بالية . ويضعُ نُقطاً بشكل عشوائي مدّعياً قدرات سحرية خارقة هو الأمّي الجاهل . ولمّا عرف أهلي والقرية التي أتيتُ منها زعم أنه هو الذي كان سبباً مباشراً وحاسماً un impact . في توظيف وتشغيل عايشة بنت … واعداً إيايَ بنفس الطموح والمصير . لكن دون أن ينسى السطو على كل متاعي بأرض الغربة القاسية أنا اليتيم البئيس بدون معارف ولا سند : عشر ريالات بالتمام والكمال . وبدون زيادة ولا نقصان . وأيضاً دون أن يفكّر الشريف النصّاب في كيفية إتمامي لأسبوع بدون زاد ولا زوّاد . فأستمرّ في التّضور جوعاً قبل حلول يوم الثلاثاء القادم موعد مجيء بّارك العطّار ذي العيْنيْن الزرقاوين الثّاقبتَيْن ويأتي بعشر ريالات أخرى . لأن الذي فرض علينا متابعة دروسنا الإعدادية في جو من القسوة والرعب واللّامبالاة .. وضعَنا بين خيارين لا ثالث بينهما : إما الصبر والصمود . وإما الاستسلام والعودة للدوار لسرح المواشي في سهول مّودنان الفسيحة !
لأعود للمأوى البائس بخفّيْ حُنَين !!
تحية للجميع : مُشكّكين ومصدّقين ..

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


− 2 = 1