بقلم – الحبيب الدائم ربي
لحد الآن لا أجد تفسيرا مقنعا لما وقع لي في ذلك اليوم المشهود من سنة 2008، حينما قصدتُ مدينة الزمامرة كما لو كنت منخطفا بنداء غريب، وأزور، دونما ترتيب مسبق، ثانوية يوسف بن تاشفين الإعدادية، لأسأل عن الأستاذ إبراهيم الحجري. صحيح أن المؤسسة كانت تدخل ضمن مجالي، باعتباري حينها كنت مفتشا بالتعليم، مع ما تحمله هذه الصفة من صورة قاتمة في الأذهان وتداعيات. وهو ما جعل المديرَ يبدي انزعاجا من حضوري، غير المرتقب، في يوم، لربما هو اليوم الوحيد الذي تغيب فيه الأستاذ المعني، فحاول، في تلكؤ، التدليل على أن الظرف القاهر هو سبب الغياب، مع التماس مزيد من الأعذار من قبيل أن شهادة طبية ستصله منه في الآجال القانونية. وقبل أن يسترسل في استعراض مزايا الأستاذ وانضباطه في العمل وتفانيه فيه، وهي ارتسامات لم أكن بحاجة إليها سيما وأنني كنت قد خبرتها في مناسبات عديدة و زيارات صفية سابقة. وحتى أرفع الحرج عن المدير أفهمته أن قصدي يدخل ضمن عيادة صديق لصديق، وحين مازحته إن كان هذا الصديق مريضا بالفعل أم يتمارض ليس إلا، وقبل أن أكمل العبارة ردت علي بالنفي القاطع سيدة، كانت منهمكة في ملْء أوراق، لم أكن قد انتبهت إلى وجودها بالمكتب الفسيح. ومن المصادفات الغريبة أنها كانت زوجة الأستاذ الحجري. مما جعلها تختصر عليّ المسافة كي أخبرها بفحوى الزيارة، بعدها سألت عن الأستاذ إسماعيل بنهنية وهو زميل للحجري في العمل وصديق حميم شاركه في مجموعة قصصية بعنوان” أبواب موصدة”، فألح عليّ بأن أحضر معه حصة دراسية إلا أنني أفهمته أن قصدي هو أنني جئت لأحثهما على اجتياز مباراة التفتيش بالتعليم لأنني أومن بكفاءتهما بصورة لا تقبل الجدل. زودته ببعض التوجيهات التقنية العامة، وانصرفت. وأنا نازل بدرجات السلم صادفت زوجة الأخ الحجري فأكدت عليها بضرورة تبليغه الرسالة وأن يكون في إجابته “استثناء” مما جعلها تبتسم لأنها أدركت إحالتي على مجموعته القصصية “استثناء”. كنت شبه موقن بنجاحهما، رغم أن عدد المناصب في هذه المباراة كان محدودا جدا. وما خيبا ظني. إذ ما هي إلا أيام حتى كانا الوحيدين الناجحين، في مادتهما، ضمن الجهة بكاملها. وأذكر أنني حين هنأتهما أسررت لهما، في شيء من الرعونة، بأن رهاني عليهما لم يكن من منطلق أنهما جديران بذلك، وحسب، خاصة وأن هناك زملاء آخرين لهم من المعارف والكفاءة أضعاف ما يمتلكان وما أمتلك. لكنهما ينمازان عن الجميع بكونهما متمرسين بالكتابة، وهذا تفصيل قد يصنع الفرق بلا ريب.
ومرت سنتان حثيثتان، قضياها في التكوين بمركز المفتشين بالرباط، دون أن ينقطع بيني وبينهما الاتصال ولا حبل الود. ولا أدري أهو اختيار طوعي منهما أم هو إجراء إداري محض أن يخوضا تدريبهما الميداني معي وبأشراف من الزميل الدكتور عبد المولى بلفقيه. ولا أخفي أنني كنت معهما شديد المهنية وإن كنا بعد إنجاز المهام المطلوبة نتحول إلى أصدقاء من دون كلفة تقريبا، بل إنني خلال مناقشة خلاصة تقريرهما بدوتُ أكثر قسوة مما هو مطلوب . علما بأنهما حصلا على العلامة كاملة بإجماع أعضاء اللجنة. وسيكون لهما في مجال “الإشراف التربوي” صيتٌ يحسب له حساب ، تصلني أصداؤه الطيبة من جهات مختلفة. وهذا ما كان يزيد من فخري بالرجلين في الغياب والحضور.
وبما أن الأستاذ إسماعيل بنهنية قد تم تعيينه في شمال المغرب فإن اتصالاتي المباشرة ظلت وثيقة أكثر بالأستاذ الحجري الذي ظل يراني وأراه، ويذكرني في المحافل كما أذكر ه بخير وبتقدير كبير. لقد كان رحمه الله شعلة من الحيوية، أسواء في عمله التربوي والإداري أم في مشروعه الإبداعي والنقدي والأكاديمي، ورغم ما حققه من نتائج وما راكمه من جوائز فإنه ما بدل تبديلا ، بحيث ظل ذلك الإنسان البسيط والمتصالح مع ذاته بشكل يدعو للإعجاب…فخورا بالانتماء إلى جذوره البدوية وبلدته” البيادرة” . وعلى ضيق وقته وانشغالاته فإنه كان لا يفوت مناسبة دون أن يسأل عني، مقترحا علي ، أن نلتقي على فنجان قهوة، حين أزور الجديدة، وذاك دأبه مع كثير ممن يزورون المدينة من المعارف والأصدقاء . وكنت ألبي الطلب بين الحين والحين فلا أجد منه إلا ذلك الشخص الوديع لكن المسكون بقلق وجودي كبير، خاصة وأن جرح غياب شقيقه مصطفى ما انفك ينزف في دواخله وزادَ غياب صديقه وابن بلدته حكيم عنكر الكية كيتين. وها قد ودع الرجل الشهم بدوره بشكل مفاجئ، وفي عز عطائه، مخلفا في الأنفس حسرة بلا حدود ، فلينم قرير الروح والمجد له… ولأهله وأحبته الصبر الجميل.
قم بكتابة اول تعليق