مدينة آزمور ..تاريخ عريق وتراث غني

بقلم –  نسرين الصافي*

تعتبر مدينة أزمور من أقدم وأعرق الحواضر المغربية، وهي تقع على الضفة اليسرى لنهر أم الرّبيع غير بعيد عن مصبّ النّهر في المحيط الأطلسي. لم يتمكّن الباحثون إلى اليوم من تحديد تاريخ تأسيس المدينة بالنّظر إلى شحّ المادة المصدرية وغموضها. ومن المحتمل جدّا أن يكون المكان قد شَهِد استقرارًا بشريًا منذ قديم الأزمان على غرار كثير من الأماكن القريبة من مصادر الماء ومن الغابة عبر أنحاء العالم. واسم أزمور كما يفسّره معظم الباحثين يعني في الأمازيغية شجرة الزيتون البرّي، والذي كان يتواجد بكثرة على ضفاف نهر أم الربيع.

تصميم المدينة العتيقة لأزمور من إنجاز الجيلالي ضريف

أزمّور.. تاريخ عريق

شكّلت أزمّور عاصمة لإمارة برغواطة الأمازيغية التي أسّسها صالح بن طريف خلال القرن 2هـ/ 8م والتي امتدّت جغرافيا من مصبّ أبي رقراق إلى نهر تانسيفت، ودام وُجودها إلى غاية فترة حكم الموحّدين (541-668ه/ 1156-1269م) الذين نجحوا في القضاء على شوكتها.

وخلال عهد الأدارسة، وبعد وفاة إدريس الثاني (ت. 213هـ/ 828م)، تولّى حكم المغرب الأقصى من بعده ابنه البكر محمّد (213-227هـ/ 828-841م). وبتوجيه من جدّته كنزة زوجة إدريس الأوّل، اتّخذ محمّد مدينة فاس قاعدةً للمُلك، وفرّق باقي أعمال المغرب على إخوته، فكانت مدينة أزمّور من نصيب أخيه الأمير عيسى بن إدريس إلى جانب سلا وشالة وتامسنا، قبل أن تنضمّ لاحقا إلى منطقة نفوذ أخيه عمر.

واقترنت شهرة المدينة خلال نهاية العهد المرابطي وبداية الدولة الموحّدية بشهرة الشيخ الصّوفي أبي شعيب أيوب بن سعيد الصنهاجي (ت. 561 هـ/ 1165-1166م)، الشهير محليا باسم: “مولاي بوشعيب”، وهو أحد أشهر أقطاب التصوف في تاريخ المغرب والذي بلغ صيت صلاحه إلى البلاد المشرقية. كان هذا الشيخ الصوفي يُقيم في أزمّور، وكان له بها بيت وزوجة، ومسجد يقيم فيه الصّلاة ويتعبّد فيه. وقد استدعاه الأمير الموحّدي عبد المومن بن علي إلى مرّاكش في عام 541 هـ/ 1146م من أجل امتحانه ومناظرته قبل أن يتأكّد من صدق ولايته ويُخلي سبيله، كما قَبِل شفاعته في نساء الأمير المرابطي علي بن يوسف ونساء أولاده فوافق على إطلاق سراحهن. ويُعتبر ضريح الولي أبي شعيب أيوب الصنهاجي بأزمور من أشهر المزارات الدينية بالمغرب لغاية اليوم.

خلال العهد المريني، شهدت أزمور ازدهارا علميا وفكريا خصوصا بعد تشييد السلطان أبي الحسن المريني (ت. 752هـ/1351م) لمدرسة علمية بها على غرار باقي كبريات المدن المغربية آنذاك كفاس وسبتة وطنجة وسلا وآسفي وأغمات وتازة ومرّاكش ومكناسة، إلّا أن هذه المدرسة اندثرت للأسف ولم يعد لها أثر في وقتنا الحالي.

يُحيط بالمدينة العتيقة لأزمور سور تاريخي بُني في الأصل بتقنية الطّابية التقليدية المغربية المُعتمدة أساسا على التّراب والجير، وهو يأخذ تصميما شبه مستطيل يمتدّ على طول النهر، يحدُّه شرقا نهر أم الربيع، وشمالا غابة سيدي وعدود، ويحدّه غربا شارع الزرقطوني الحالي. أما جنوبا فيحدُّه مُنخفض طبيعي يقود إلى النهر. يعلُو هذا السّور التّاريخي ممرّ للجنود من أجل الحراسة، وتُدَعِّمُه أبراج للدّفاع والمراقبة وتخترقه أبواب يحمل كل منها اسما معينا.

أزمور  مدينة استقرار للبرتغاليين

فقد احتلّ البرتغاليون أزمّور سنة 1513م، ونظرا لشساعة المدينة وصعوبة التحكّم فيها، اختاروا الاستقرار بجزء منها فقط (القصبة)، وأنشؤوا فيه البنايات الخاصّة بهم وأبرزها معلمة القبطانية مقرّ الحاكم البرتغالي. وقاموا سنة 1517م ببناء سور داخلي فاصل (أتالهو /Atalho) يمتدّ من برج سان كريستوف بالرّكن الجنوبي الغربي للقبطانية إلى برج النهر (bastion de la rivière) المشرف على واد أم الربيع، والذي يُعرف أيضا ببرج الطّاحونة. وهكذا، فَصَلَ السُّورُ الدَّاخلي المدينة العتيقة لأزمّور إلى جزأين، جزء يُقيم فيه البُرتغاليون وهو الأصغر مساحة (القصبة)، بينما حُوِّل الجُزء المُتبَقّي وهو شاسع إلى بساتين للفلاحة وزراعة الخضر والفواكه. وذلك بعد أن أخلى المغاربة مسَاكِنَهم بهذا الجزء، على إثر الاحتلال البرتغالي للمدينة، فقام البرتغاليون بهدمها بشكل تدريجي واستغلال فضاءاتها كبساتين وكمرعى لدوابّهم.

جعل البرتغاليون في السّور الفاصل بابا يُعرف حاليا ب “باب القصبة القديم” كان يعلُوه بُرج للمراقبة، وهو يُشكّل نقطة الرّبط بين حيّ القصبة وباقي المدينة العتيقة لأزمّور. واحتفظوا بباب الواد (باب الواد-الملّاح) للرّبط بين المدينة وواد أمّ الرّبيع، وكذلك لتيسير إدخال المساعدات والمعونات التي يحتاجون إليها من خلاله. كما قاموا بتحويل الجامع الأعظم للقصبة (مسجد القصبة الحالي) إلى كنيسة لأداء شعائرهم الدينية. وقد استرجع هذا المسجد وظيفته الأصلية لاحقا بعد تحرير المدينة من الوجود البرتغالي سنة 1541م.

خلال فترة احتلالهم لأزمّور، حفر البرتغاليون خندقا حول المدينة، من أجل الزّيادة في مناعتها وحمايتها من هجمات المغاربة، وكذا للتحصّن من الأسود التي كانت تكثر في الغابات المحيطة بها. وقاموا ببناء أبراج عسكرية جديدة أبرزها برج “سان كريستوف” ذي الشّكل الدّائري عند الرّكن الجنوبي الغربي للقصبة، وقاموا من جهة أخرى بإجراء تغييرات على الأبراج المغربية القائمة، وأدخلوا تعديلات عليها كي تستجيب لمُتطلّباتهم الدّفاعية، حيث جَعَلُوا فيها فَتَحَاتٍ للمَدَافِع على عِدّة مُستويات وزادوا في مناعتها كبرج سيدي وعدود (Bastion de Rayon) في الرّكن الشّمالي الغربي لسور المدينة… بينما احتفظوا بأبراج مغربية أخرى مُقتَصِرين على تحويل فتحاتها الضيِّقة للرّمي بالبنادق إلى فتحاتٍ واسعةٍ تَسَعُ فوهات المدافع، كما احتفظوا بممرّ الحراسة لسُور المدينة.

وبذلك تمّت المزاوجة في أزمور بين العناصر الهندسية للتّحصينات العسكرية المغربية خلال الفترة الوسيطية وبين متطلّبات الهندسة المعمارية العسكرية خلال تلك الفترة الانتقالية (القرن 10هـ/ القرن 16م) التي شهدت تطوّرا في السّلاح الناري وفي فنون الحرب.

شنّ السّعديون خلال القرن 10هـ/16م حملة شرسة ضد الوجود البرتغالي بالثغور المغربية، وهو ما اضطرّ البرتغاليين إلى إخلاء مدينة أزمّور سنة 1541م، كما أخلوا في نفس السنة مدينتي آسفي وسانتا كروز (أكادير). فحكم أزمور بعد ذلك السّعديون ثم العلويون من بعدهم، وعاد المغاربة لإعمار المدينة بالسّكن والبناء من جديد.

مآثر تاريخية ومباني تراثية

تزخر مدينة أزمّور بمآثر تاريخية ومباني تراثية عديدة ومُتنوّعة نذكر منها: الأسوار والأبراج والأبواب، ومسجد القصبة والمسجد الكبير، والزّوايا، والحمّامات والأفران التقليدية، والسقّايات، وأضرحة إسلامية ويهودية (ضريح ربّي أبراهام مولنيس)، ومنازل تقليدية صغيرة وكبيرة، وأحياء سكنية قديمة كحيّ الملّاح الذي كان مُخَصَّصًا لإقامة اليهود، وأزقة مغطّاة (الصّابات)، وكذا أحياء حرفية قديمة تصطفّ على جنباتها متاجر الحرفيين التقليديين لصنع وبيع منتجاتهم )زنقة الدرّازين، زنقة الخرّازين…).

بالإضافة إلى ذلك، تمتلك مدينة أزمّور تراثا ثقافيا لا مادّيا غنيّا ومُتنوّعا، يتمثّل في موروث فنّي أصيل (الملحون) وفي تقاليد وعادات ومعارف ثقافية واجتماعية وحرفية محلّية متوارثة أبا عن جدّ، ومنها فنون الطّبخ وعادات الزّواج والعقيقة والختان وطقوس الاحتفال بالأعياد المختلفة، وصناعة الخزف والنسيج، وفن الطّرز الأزمّوري الذي يمتاز عن باقي أنواع التطريز بالمدن المغربية الأخرى، باعتماد رسم الحيوان الأسطوري “التنين” إلى جانب رسومات حيوانية أخرى كالطاووس وأشكال  هندسية ونباتية….

     *محافظة مدينتي الجديدة وأزمور         بالمديرية الإقليمية لوزارة الثقافة بالجديدة

قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


61 + = 68